المتابع لمسار السياسات العربية وسط خضم التطورات الدولية والإقليمية المتلاحقة فى المنطقة تصدمه قرارات واختيارات واتجاهات يصعب تفسيرها فى إطار الأبجديات المتعارف عليها فى السياسات الخارجية للدول حتى إذا حاول البعض تبريرها بكثافة الضغوط الخارجية، وضعف القدرات الداخلية، وعدم جدوى الوقوف أمام «جبروت» الدول الكبرى، وعبثية التصدى لجماعات الضغط النافذة على الساحة الدولية وذلك لأن هذه «الأعذار» يمكن تفهمها فى حالة «الاستفراد» الخارجى بدولة واحدة، أو مجموعة هشة من الدول، أما إذا تعلق الأمر بكتلة عربية مترامية الأطراف تمتلك المكانة التاريخية، والثقل السياسى، والموقع الاستراتيجى، والثروة البترولية، والسيولة النقدية، خصوصا إذا تحركت فى مسار جماعى، وبموقف منسق، وإدارة سياسية موحدة دفاعا عن مصالحها المشتركة، فإن هذه العوامل من شأنها أن تؤدى إلى تحييد هذه الضغوط، واحتواء آثارها السياسية، بل ربما ساهمت فى تغيير الاتجاهات الغربية تجاهها، ونجحت فى وضع مواقفها ومصالحها وحساسياتها فى اعتبار القوى الدولية عند اتخاذ قراراتها. إلا أن واقع السياسات العربية المتمثل فى الانقسام والتشرذم والاختلاف وغياب الثقة بين القيادات يدفعها لاتخاذ مواقف يغلب عليها طابع الارتجال والسلبية والانفراد والتنافس، وتفتقد فى تحركها للأبجديات الأولية المتعارف عليها فى سياسات الدول الخارجية، من حيث غياب الأسس الواضحة، والمعايير الحاكمة، والقواعد المنظمة التى تحكم العلاقات بين هذه الدول، وذلك كما يظهر فيما يلى: أولا: أن العلاقات العربية العربية يغلب عليها طابع التقلب، وتغيب عنها عوامل الثقة والاستقرار وتعتمد فى تقدمها أو تراجعها على اعتبارات الروابط الشخصية وتوافق الكيمياء بين قادتها، وهى تفتقد لمقومات التنسيق المؤسسى بين السياسات، ولإرادة التوصل إلى مواقف مشتركة فى القضايا العربية الحيوية، ولاتجاه تعميق التضامن فى إطار النظام العربى، مفضلة فى ذلك بديل التحالف مع القوى الكبرى، فضلا عن ضعف سياساتها فى تقدير تباين الظروف وتضارب المصالح أحيانا بين دولها،وتفهم إمكانية وجود مساحة للاختلاف بينها فى مجالات معينة، الأمر الذى أدى إلى توسيع هوة الخلاف بين دولها، ودخول بعضها فى تحالفات إقليمية أو دولية متعارضة ساعدت فى إضعاف الموقف العربى بمجمله، وخصمت من رصيده على الصعيدين الإقليمى والدولى، ودفعت فى اتجاه تقوية أدوار الأطراف غير العربية على حسابه فى المنطقة. ثانيا: أن التعامل العربى مع القوى الكبرى «الصديقة» يبدو وكأنه يسير فى طريق ذى اتجاه واحد يفرض على الدول العربية الالتحاق بركبها، ومساندة سياساتها، وتجنب إغضابها، وتفادى إظهار الخلافات معها، مهما كان مساسها بالمصالح العربية الحيوية، ومواقفها المساندة لإسرائيل، فضلا عن استعدادها المجانى لتجاهل مبدأ الالتزامات المتقابلة، والتنازل عن مفهوم التوازن فى العلاقات بين الطرفين، والتخلى عن حقها فى استعمال ما تملكه من أدوات سياسية وإمكانيات مالية يمكن استثمارها فى ممارسة الضغوط المتاحة لديها لمساندة قضاياها والدفاع عن مصالحها، بالرغم من أن هذه القوى لا تحترم إلا الأقوياء، ولا تتعامل إلا بلغة المصالح، وتعترف نظمها السياسية بدور جماعات الضغط فى التأثير على سياساتها الداخلية والخارجية. ثالثا: أن السياسات العربية تتجاهل العلاقات مع الدول الإقليمية النافذة فى المنطقة، وتعزف على استثمار الروابط التاريخية والثقافية والدينية والسياسية التى تربطها بها، وتمتنع عن إجراء اتصالات مباشرة والدخول فى مفاوضات «جماعية» معها لتبادل الآراء، وشرح السياسات، واستطلاع المواقف واستكشاف النوايا، وترك هذه المهمة بالكامل لعناية الدول الكبرى، الأمر الذى يعكس ميلا واضحا للتخلى عن مسئوليتها الإقليمية، ويظهرها بمظهر المتهاون فى دورها، والمتجاهل لمصالحها والمهادن لخصومها، لاسيما بالنسبة لوضع نفسها موضع الخصومة غير المبررة مع الدول الإقليمية «الشقيقة» عبر الاصطفاف مع إسرائيل من داخل المعسكر الغربى ضدها. رابعا: أن العلاقات مع إسرائيل التى تتركز من الناحية الرسمية فى دولتين عربيتين، وتمتد من الناحية الفعلية إلى دول أخرى تربطها علاقات غير معلنة بها، تخرج بدورها عن إطار الأبجديات الأولية التى تحكم العلاقات بين الدول لاسيما بالنسبة لافتقاد التوازن بين التزامات أطرافها.. إذ فى الوقت الذى تتمتع فيه إسرائيل بحرية حركة كاملة على ساحة المنطقة والساحة الدولية، وتباشر معركة مفتوحة ضد الشعب الفلسطينى وفى مواجهة الدول العربية تمارس فيها كل أنواع الاعتداء والتحدى والضغط والإحراج فإن الجانب العربى فى هذه العلاقات يلتزم بموقف الحذر الكامل تجاه هذه الممارسات تجنبا لإغضاب الدول الكبرى «الصديقة». وتفاديا لأن تفسر تحركاته أو تصريحاته على أنها خروج من حدود التزامه ببنود اتفاقيات السلام.. وهو وضع أدى تكراره إلى أن أصبح يمثل نمطا ثابتا فى العلاقات الإسرائيلية العربية يتمثل فى معادلة غير متوازنة بين سياسة إسرائيلية هجومية لا حدود لغطرستها وتبجحها، فى مقابل ردود أفعال عربية متفرقة ومتهافتة لا حدود لصبرها واستكانتها. ويبلغ هذا الوضع المحرج مداه حين يتطلب الأمر تدخلا عربيا للتوسط لدى إسرائيل غالبا ما تستثمره لصالحها لتغطية جرائمها، وتهدئة ردود الأفعال العربية والإسلامية والرأى العام الدولى تجاهها. خامسا: أن النظرة العربية إلى القضية الفلسطينية تشوبها مشاعر الإحباط وخيبة الأمل من ناحية ونوازع الفتور واللامبالاة من ناحية أخرى. كما أن العلاقات العربية الفلسطينية تشهد حالة من الالتباس نتيجة ازدواجية التعامل بين بعض الدول العربية مع السلطة كمشروع دولة، وبعضها الآخر مع المقاومة كحركة تحرر وطنى، فضلا عن انقسام الحركة الفلسطينية بين فصيلين وكيانين لا يجمعهما إلا خضوعهما للاحتلال الإسرائيلى، وتمتع كل منهما بمساندة مجموعة متعارضة من الدول العربية والإقليمية، الأمر الذى أدى إلى وقوع هذه الحركة بأكملها رهينة فى يد أطراف عربية وإقليمية يسعى كل منها لاستثمارها لخدمة أهدافها وأجندتها الخاصة، بما يفسر تعدد منطلقاتها، وتوزع الولاءات داخلها وانقسام صفوفها، وارتباك قراراتها وتعثر محاولات المصالحة بينها. وهو ما يدفعها لاتخاذ قرارات «كارثية» مختلف عليها ويضعها فى موقف «الغياب» بالنسبة للأحداث التى تمس القضية أو بالنسبة لقدرتها على تمثيل الشعب الفلسطينى، الأمر الذى يضع العلاقات العربية الفلسطينية برمتها خارج إطار الأبجديات المتعارف عليها سواء فى العلاقات مع السلطة كممثل للشعب الفلسطينى أو مع المقاومة كحركة تحرر وطنى.
وإذا كان افتقاد السياسات العربية للأبجديات السياسية التى تحكم العلاقات بين الدول العربية على المستوى العربى والإقليمى والدولى من حيث العزوف عن التضامن فى الإطار العربى، والركون إلى التحالف مع القوى الكبرى، وغياب الإرادة فى فتح قنوات الاتصال مع الدول الإقليمية المؤثرة، وافتقاد التوازن فى العلاقات العربية الإسرائيلية، والتركيز على التفاوض كبديل وحيد واستبعاد المقاومة كخيار مكمل له، فإن الواضح أن تغيير التوجهات العربية بطريقة جذرية على المدى القصير، فى الظروف الراهنة، يعتبر أمرا صعب التحقيق فى ضوء الرغبة العربية السائدة فى الحفاظ على أوضاع العلاقات القائمة، والتوجس من اتجاهات تغيير السياسات، والقلق من دفعها إلى مسار يبدأ بالمبادرة وينتهى بالمغامرة،والخوف من استعداء الدول الكبرى، إلا أن الشاهد أنه يمكن تحريك المياه الراكدة فى السياسات العربية والمشاركة فى توجيه التطورات التى تتلاحق على ساحة المنطقة بالتحرك على ثلاثة مستويات: أولا: دفع جهود المصالحة العربية والتى بدأت بوادرها تظهر فى تحسن العلاقات السورية السعودية إلى نهايتها المنطقية بانضمام مصر إليها على أسس سياسية متفق عليها. وذلك فى مسعى مستقبلى لإحياء التضامن بين الدول الثلاث بما يجعلها أشبه بالقاطرة التى تشد النظام العربى وتوجه حركته وتوحد مواقف دوله. ثانيا: التوقف عن ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية لاتخاذ مواقف تفيد الأمريكيين إعلاميا والإسرائيليين سياسيا، بينما تحرق القيادات الفلسطينية أمام شعبها، وتزيد من الانقسام فى صفوفها، مع مشاركة الدول العربية فى الجهود الرامية لتضييق الخناق على إسرائيل وكشف ممارساتها وجرائمها أمام المحافل الدولية والمنظمات الحقوقية، والمساهمة بفاعلية فى كسر «التابو» الأمريكى الأوروبى الرامى لمنحها موقعا استثنائيا فى المجتمع الدولى لا يتحمل الإدانة أو يخضع للعقاب. ثالثا: اتخاذ الإجراءات اللازمة لبدء اتصالات عربية جماعية مع إيران لاستطلاع النوايا وضبط العلاقات وفتح جميع الملفات العالقة، مع تفويض الأمين العام لجامعة الدول العربية بالبدء فى مفاوضات تمهيدية بطهران يتلوها مباحثات موسعة على مستوى وزراء الخارجية بين الطرفين.