المسافة بين البوابة والدور السادس مملة رغم المصعد الذى يقطعها فى دقيقة أو أقل.. استدعاؤه وانتظاره، والبقاء فى داخله فى صمت ولو للحظات أمر قد يصيب بالملل. لكن الشخص الذى يرافقك من لحظة انفتاح الباب حتى وصولك للدور الذى تطلبه، قادر على الابتسام طوال هذه المسافة، وربما تجد منه ترحابا أو تحية حارة تفقد معها إحساسك بهذه اللحظات، التى تنتهى بوصولك، ومواصلته هو العمل لست ساعات أخرى، على الأقل، يصعد خلالها ويهبط وهو يبتسم. عامل المصعد هو الشخص الذى يرى عشرات الوجوه يوميا، منهم من يعرف ومن لا يعرف، لكن فى كل الأحوال عليه الابتسام فى وجوههم، ويكون مسئولا خلالها عن سلامتهم. هذا الاجتماع فى مساحة مغلقة لفترة زمنية محدودة مع الأشخاص وهو ما يعتبره أحمد (24 عاما) تجربة أثرت فى شخصيته بعد عام من العمل فى المصعد: «عملى هو البقاء مع الناس وتوصيلهم، هؤلاء الناس فئات مختلفة، منهم البشوش ومنهم المتجهم ومن هو فى طريقه لمشاجرة، ومن يسعى لإنهاء مصلحة.. كل واحد منهم فى حالة نفسية مختلفة وعلىّ التعامل معه ولو لدقائق»، أرشدته خبرته إلى أن «الكلمة الحلوة هى مفتاح هذا التعامل: (إزيك يا أستاذة).. (حمد لله ع السلامة يا بيه) عبارات أستخدمها يوميا». يعمل أحمد فى مصعد إحدى شركات التأمين، كان قبلها يعمل فى مخازن إحدى شركات الصناعات الغذائية، ورغم أن مهنته الحالية تستلزم جهدا أقل فإنه يتمنى تغييرها، مبررا: «العمل فى الأسانسير شىء مريح لكنه ممل جدا!»، ويوضح: «أقضى ثمانى ساعات يوميا فى مساحة مترين فى مترين، ممنوع علىّ فيها كل شىء إلا العمل». وفى جميع المؤسسات يكون عامل المصعد ممنوعا فى أثناء خدمته من الأكل والشرب والتدخين وقراءة الجرائد أو الكتب، كما أنه ممنوع، أيضا، من مغادرة المصعد دون التسليم لزميل له، مثلما أنه ممنوع من الجلوس إلا فى الجانب الأيمن من المصعد تحت لوحة المفاتيح. لكن عبدالله (20 عاما) لا ينكر أنه يلجأ لبعض هذه الممنوعات قتلا للوقت، «فى الساعات التى يقل فيها عدد المترددين على المصعد أقرأ جريدة أو مجلة أو أستضيف أحد زملائى هنا!»، ويضيف: «مستحيل أن أظل ساعات بمفردى يوميا». ويشعر عبدالله بالتسلية خلال الفترة التى يزيد فيها طالبو المصعد فى البناية التى يعمل بها وتضم مكاتب وشركات وشققا سكنية، يشعر بالتسلية حقا «فى الأسانسير هذا يقول وهذا يستمع، أشياء كثيرة أسمعها هنا، وأحيانا يستفسر منى المترددون عن أخبار أو خدمات»، ويبتسم: «يعتبروننى (مصدرا مطلعا!)». وبالفعل يختار كثيرون عامل المصعد لسؤاله عن المكان، لمعرفته بجميع العاملين، وسماعه أحاديث كثيرة تجعله حقا «مصدرا مطلعا»، وقبل كل شىء فإن عامل المصعد واحد من فريق العمل بالمكان. أرى وأسمع ولا أتكلم وبينما يرحب عبدالله بالإجابة عن هذه الاستفسارات، يتحفظ إسلام (19 عاما) على التحدث إلى ركاب المصعد عموما، قائلا: «أنا فى وقت العمل أسمع وأرى لكن لا أتكلم! وإذا تحدث إلىّ أحدهم أجيبه بقدر سؤاله». ولا يبدو إسلام مهتما بالتفاعل مع أحاديث المصعد والمشاركة فيها بقدر الاستماع إليها: «أنا من قرية فى القليوبية، بين قريتى وبين الأسانسير عالم آخر أحب التعرف عليه»، لكن طوال ثلاثة أشهر هى فقط مدة عمل إسلام فى مصعد إحدى النقابات، لم يتدخل فى أى من هذه الأحاديث. رغم ذلك تعرض إلى مشادة مع أحد أعضاء النقابة، بعد دخوله المصعد مشعلا سيجارة، طلب منه إسلام أن يطفئها، تنفيذا للتعليمات، لكن الرجل أصر وصرخ فى عامل المصعد، الذى ما كان منه إلا أن فصل الكهرباء وأوقف عمل المصعد لحين أن يطفئ الرجل سيجارته. يرى عبدالله أن عامل المصعد قد يواجه مشكلات من هذا النوع، سواء مخالفة أحد الركاب التعليمات داخل المصعد أو إصراره على استخدامه وتجاوز العدد المسموح للركاب، وعليه أن يتحلى بالدبلوماسية التى تمكنه من التعامل مع هذه المشكلات. أما عبدالله فكثيرا ما يشهد داخل الأسانسير مشادات بين الركاب أنفسهم، الحل الأفضل لها كما يقول هو «الاستمرار فى تشغيل المصعد بشكل عادى تماما لحين وصول أطراف المشاجرة إلى وجهتهم»! ناس نضيفة ورغم حداثة خبرته فى المهنة لا يستبعد إسلام تغييره مجال مهنته ترك عمله فى المصعد إذا وجد عملا أفضل، رغم ما يجده فيها من مميزات: «عملى فى الأسانسير إلى جانب أنه يفتح لى نافذة لمقابلة شخصيات مختلفة والتعامل معها، مريح إلى حد كبير، فلا يستلزم مجهودا عضليا كبيرا، كما أننى هنا أرتدى زيا رسميا وأتعامل مع شخصيات نضيفة». وفى عمله بمصعد استوديوهات إحدى المحطات الفضائية المعروفة، يقابل ربيع (22 عاما) كثيرا من هذه الشخصيات «النضيفة»، بل يتعامل مع مشاهير فى مجالات مختلفة «بداية من المذيعين والمذيعات، وحتى الضيوف المعروفين، ومنهم وزراء»! ويبدو ربيع سعيدا بمهنته، التى يرى فيها وجاهة مقارنة بعمله السابق فى البوفيه بنفس المحطة الفضائية. فيقول: «أنا أعرف كل المذيعين عن قرب، لأننى أراهم بعيدا عن الكاميرات، فى مواقف مختلفة»، ويستطرد «فى بداية عملى، كنت آخذ صورا معهم بالموبايل، لكننى اليوم تعودت». وبات ربيع يعتبر الممثلين والمطربين أشخاصا عاديين، أما المسئولون والوزراء الذين تستضيفهم القناة، فهم فى خانة أخرى لدى ربيع: «أرحب بالجميع طبعا، لكن إذا قابلنى مسئول ولدى شكوى أو طلب لديه أتقدم وأطلبه منه». محطة مؤقتة ولا يبدو أن العمل فى المصعد مهنة تحتمل الطموح، فكل من أحمد وإسلام وعبدالله يعتبرون مهنتهم محطة مؤقتة، ينتقلون بعدها لعمل إدارى، على أساس أن الكبير فى السن لا يليق به الوقوف فى المصعد، ويقولون إن ذلك عرف تعمل به إدارات الشركات والهيئات، وهو ما يفسر كون غالبية عمال المصاعد دون الثلاثين. العمال أيضا يعملون باليومية، وهو ما يحرمهم من التمتع بحقوقهم من تأمين صحى وتأمينات اجتماعية وخلافه. يذكر عبدالله ذلك متذمرا: «أعتقد أن عملى مع سهولته يعرضنى للخطر فى أى لحظة، إذا حدث هذا المكروه، فلن أجد تعويضا». عبدالله أيضا يشعر ببعد هذه المخاطرة، خاصة بعد ما تعرض إليه أحد زملائه قبل نحو شهرين «كان فى المصعد وفجأة وجد نفسه يسقط، لم يصب بمكروه.. الحمد لله، رغم أن السقوط كان قويا»، ومن وقتها اعتزل هذا الزميل العمل بالمصعد واتجه للنجارة! كما يقول عبدالله. وعند تسلم عامل المصعد مهام وظيفته يتعلم بعض أساسيات الصيانة للمصعد، وهو ما تفوق فيه أحمد، فأصبح يساعد أحيانا زميله المسئول عن الصيانة، بل يستخدم ذلك لمشاكسة بعض زملائه: «أتظاهر بأن المصعد قد أصابه عطل ما إذا كان راكبا معى أحد زملائى الجدد»، ويضحك: «فى الحقيقة أكون أنا من أوقفته»!