كما هى عادتنا تتوالى الأحداث ويتصدى الجميع لإبداء الآراء دون أن يؤدى ذلك إلى محاولة الانتفاع بهذه الآراء فى تقويم ما حدث، وهكذا من بيده القرار يفعل ما يراه صائبا ولا يلتفت إلى الآراء المعارضة، وإذا أثبتت الأحداث خطأ ما تقرر فلا أحد يحاسب وينطبق علينا المثل العامى (خيرها فى غيرها) وهكذا فنحن حقل تجارب فاشلة لكل النظم. ومن أمثلة ذلك فى الاقتصاد ما حدث أخيرا من قيام البنك المركزى برفع سعرى عائد الإيداع والإقراض بمقدار 2% فى مايو 2017 بعد أن كان قد رفعه 3% فى نوفمبر 2016 ولقد عبرت غالبية التصريحات عن المفاجأة من هذا القرار، رغم أن تصريحات مسئولى صندوق النقد الدولى كانت توصى بذلك عند مراجعة تطبيق الاتفاقية مع الصندوق، وبالتالى فقد كنت ممن توقعوا ذلك، ليس لأن ذلك هو الصواب بل إن الواقع يوضح لنا أن الحكومة قد سارت على درب الصندوق وسياساته ومن المستحيل التراجع عن ذلك، فلماذا المفاجأة؟ وفقا لبيانات وتصريحات المسئولين فإن الهدف من هذه الزيادة لسعر الفائدة هو امتصاص السيولة من النقود وهو ما يعنى سحب كمية من النقود من الأسواق وبدلا من أن تستخدم فى الشراء تتحول إلى البنوك للاستفادة من ارتفاع سعر الفائدة، وبالتالى يقل الطلب على السلع مما يؤدى إلى انخفاض أو عدم زيادة الأسعار وبالتالى يقل التضخم وهو ما تهدف إليه السياسة النقدية، هذا ما تقوله النظرية الاقتصادية ولكن إذا طبقنا ذلك على واقعنا فسنجد اختلافا كبيرا بين النظرية والواقع مما يؤدى فى النهاية إلى عدم تحقيق الهدف الذى تستهدفه هذه السياسة والدليل على ذلك ما يلى: 1 البنك المركزى هو المصدر الأساسى لزيادة حجم النقود فى الأسواق من خلال ما يطبعه من نقود جديدة لا علاقة لها بحجم الناتج وخاصة أن البنك لا يعلن عن حجم طبع النقود، فإذا كان يستهدف خفض حجم النقود السائلة فليتوقف عن طباعة النقود إلا وفقا لقواعد النظام النقدى، وخاصة أن الحكومة كانت تحصل على ما تريده من نقود من خلال أذون وسندات الحكومة دون المزيد من طباعة النقود. 2 الطبقة الوسطى التى كان لديها مدخرات ومع زيادة الأسعار تحاول أن تستخدم مدخراتها فى الحفاظ على الحد الأدنى المقبول لمستوى معيشتها، وبالتالى فلن يغريها زيادة سعر الفائدة بإيداع نقودها فى البنوك، أما الأغنياء فإنهم يستخدمون فائض أموالهم إما فى الادخار بالخارج أو شراء العقارات والدولار تحسبا للمزيد من ارتفاع الأسعار وبالتالى فلن يحولوا ما لديهم من نقود إلى البنوك، لأن التضخم يأكل كل الفائدة مهما ارتفعت مما يؤدى إلى هبوط القيمة الحقيقية للودائع مما يجعل كبار المدخرين يقومون بتحويل مدخراتهم للعقارات والذهب والدولار. *** 3 عند زيادة سعر الفائدة ليصل إلى 20% فى نوفمبر 2016 عقب تعويم الجنيه، قام غالبية المدخرين بكسر ودائعهم لتحويلها إلى الأوعية ذات العائد الأعلى، وبالتالى لن يكون هناك مدخرات جديدة بالحجم الكبير يمكن أن تحصل عليها البنوك، وإذا تغيرت أسعار الفائدة على بعض الأوعية الادخارية فسنشهد ما أسميه بالودائع الدوارة أى التى تتحول من وعاء لآخر تبعا لسعر الفائدة ولكن لن يكون هناك المزيد من الودائع الجديدة. 4 أما القول بأن زيادة سعر الفائدة سيؤدى إلى انخفاض حجم الطلب، فلم يكن الأمر يحتاج هذه الزيادة فحجم الطلب فى تناقص نتيجة مضاعفة الأسعار بعد تعويم الجنيه وانخفاض القيمة الحقيقية للدخول، وبالتالى لم يعد مع المستهلكين ما يكفى لشراء احتياجاتهم السابقة مما أدى بهم إلى ضرورة خفض الطلب وهو ما أدى إلى دخول الاقتصاد فى حالة من الركود. 5 كذلك فإن زيادة الأسعار وبالتالى التضخم الذى تجاوز 30 % فى إبريل لا علاقة له بحجم الطلب بل بزيادة الأسعار من الحكومة فى المرتبة الأولى وليس بسبب جشع التجار، وهناك انتظار لموجة جديدة من التضخم نتيجة زيادة أسعار الكهرباء والمياه والبنزين بعد يوليو القادم، وهذه الزيادات لا علاقة لها بسعر الفائدة سواء ارتفع أو انخفض. وهكذا نجد أن انفلات الأسعار لا علاقة له بسعر الفائدة بل نجد أن زيادة سعر الفائدة يكون حجة للمزيد من ارتفاع الأسعار نتيجة لسيطرة الاحتكارات على الأسواق. *** 6 القول بأن زيادة سعر الفائدة سيؤثر على المنتجين ويزيد من تكلفة إنتاجهم وبالتالى يصعب عليهم تسويق منتجاتهم مما يجعلهم يتوقفون عن العمل وتسريح العمال بدلا من زيادة الاستثمارات، هذا القول لا علاقة له بواقع السوق المصرى الذى تسيطر عليه الاحتكارات، وهذه الاحتكارات لا تضع أسعارها وفقا للتكلفة بل لقدرتها على فرض ما تريد من أسعار ومدى تحكمها فى السوق، وبالتالى لا توجد علاقة بين رفع سعر الفائدة والتسعير، ما يحدد الأسعار هو مدى سيطرة المحتكر على السوق وفرضه ما يريد من أسعار. 7 كذلك التخوف من انخفاض الاستثمارات نتيجة رفع سعر الفائدة بحجة أن المستثمر أسهل له أن يضع نقوده فى البنوك دون معاناة مع العمال ومشاكل الإنتاج لأنه لن يحصل على عائد أعلى مما يحصل عليه من البنك، فهذا التخوف لا علاقة له أيضا بالواقع فغالبية المشروعات تحقق ربحا أعلى بكثير وهناك من يقدر أرباح بعض المشروعات ب100 % نتيجة الاحتكار، وما يؤيد ذلك أن رجال الأعمال قد رفضوا مقترح الحكومة بتحديد هامش للربح لكل منتج بل ورفضوا الإفصاح عن سعر التكلفة وسعر البيع، فنحن نعانى من فوضى الأسواق تحت وهم حرية السوق. 8 الأجانب أصحاب الأموال الساخنة والصناديق الدولية التى يتغنى محافظ البنك المركزى بأنها جاءت لمصر بعد التعويم لشراء السندات الحكومية وأسهم الشركات فى البورصة، هؤلاء هم المستفيدون من زيادة سعر الفائدة، وهم فى كل الأحوال كانوا رابحين قبل هذه الزيادة وبعدها وعلى استعداد لتمويل سندات وأذون الخزانة بهذا السعر المرتفع، وفى مقابل أن تحصل الحكومة على دولاراتهم تتحمل المزيد من فوائد الديون. وهكذا نجد أننا ما زلنا نعانى من نفس المشكلة حيث تنفذ الحكومة سياسة تستهدف منها تحقيق أهداف معينة ولكنها لا تدرس الواقع الذى يفرض نفسه وبالتالى لا يتحقق الهدف الذى تسعى إليه الحكومة مما يؤدى إلى المزيد من المشكلات وانهيار الاقتصاد، كيف فى ظل هذا الواقع نصدق ما يقوله محافظ البنك المركزى أن سياسته ستجعل التضخم 13 % عام 2018.