الآن.. رابط نتيجة تنسيق الثانوية الأزهرية 2024 بالدرجات فور إعلانها رسميًا (استعلم مجانًا)    بعد ارتفاعها 400 جنيه.. مفاجأة في أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة (بداية التعاملات)    واشنطن تطلب من مواطنيها مغادرة لبنان فورًا    حزب الله يعلن استهداف قاعدة ومطار رامات ديفيد جنوب شرق حيفا    حزب الله يستخدم صواريخ «فجر 5» لأول مرة منذ عام 2006    يوسف أيمن: جماهير الأهلي الداعم الأكبر لنا.. وأفتقد محمد عبد المنعم    خالد جلال: قمة الأهلي والزمالك لا تخضع لأي لحسابات    أحمد فتحي يوجه رسالة مؤثرة إلى جماهير الأهلي بعد اعتزاله.. ماذا قال؟    «عيب اللي قولته واتكلم باحترام».. نجم الزمالك السابق يفتح النار على أحمد بلال    عاجل- أمطار ورياح.. تحديثات حالة طقس اليوم الأحد    أستاذ مناخ: نتوقع حدوث السيول في فصل الخريف بنسبة 100%    نقل آثار الحكيم إلى المستشفى إثر أزمة صحية مفاجئة    إسماعيل الليثى يتلقى عزاء نجله بإمبابة اليوم بعد دفن جثمانه ليلا بمقابر العائلة    أمامك اختيارات مالية جرئية.. توقعات برج الحمل اليوم ألحد 22 سبتمبر 2024    أحمد سعد يعلن عودته لزوجته علياء بسيوني.. ويوجه رسالة للمطلقين (فيديو)    احتفالية كبرى بمرور 100سنة على تأسيس مدرسة (سنودس) النيل بأسيوط    اليوم.. محاكمة مطرب المهرجانات مجدي شطة بتهمة إحراز مواد مخدرة بالمرج    أضف إلى معلوماتك الدينية | حكم الطرق الصوفية وتلحين القرآن.. الأبرز    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 22 سبتمبر بعد الانخفاض بالبنوك    الدفاعات الإسرائيلية تحاول التصدي لرشقات صاروخية أطلقها حزب الله.. فيديو    وزير الدفاع الأوكراني: الغرب وعدنا بأموال لإنتاج الصواريخ والطائرات المسيرة    الموزب 22 جنيهًا.. سعر الفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 22 سبتمبر 2024    أحمد شكري: كفة الأهلي أرجح من الزمالك في السوبر الإفريقي    لاعبو الأهلى يصطحبون أسرهم خلال الاحتفال بدرع الدورى 44.. صور    مواجهة محتملة بين الأهلي وبيراميدز في دور المجموعات بدوري أبطال إفريقيا    وزير الشباب والرياضة يشيد بحرص القيادة السياسية على تطوير المنظومة الرياضية    عاجل.. بدء حجز وحدات سكنية بمشروع «صبا» للإسكان فوق المتوسط بمدينة 6 أكتوبر    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الأوزبكستاني أوجه التعاون وعلاقات البلدين    الخارجية الأمريكية تطالب رعاياها بمغادرة لبنان    مش كوليرا.. محافظ أسوان يكشف حقيقة الإصابات الموجودة بالمحافظة    وزير الخارجية: نرفض أي إجراءات أحادية تضر بحصة مصر المائية    نشأت الديهي: الدولة لا تخفي شيئًا عن المواطن بشأن الوضع في أسوان    نشأت الديهي: الاقتصاد المصري في المرتبة ال7 عالميًا في 2075    صيادلة المنوفية تُكرم أبنائها من حفظة القرآن الكريم    محمد حماقي يتألق في حفل بالعبور ويقدم «ليلي طال» بمشاركة عزيز الشافعي    «موجود في كل بيت».. علاج سحري لعلاج الإمساك في دقائق    جثة أمام دار أيتام بمنشأة القناطر    اندلاع حريق بمحال تجاري أسفل عقار ببولاق الدكرور    خبير يكشف عن فكرة عمل توربينات سد النهضة وتأثير توقفها على المياه القادمة لمصر    الصين وتركيا تبحثان سبل تعزيز العلاقات    محافظ الإسماعيلية يناقش تطوير الطرق بالقنطرة غرب وفايد    رئيس شعبة بيض المائدة: بيان حماية المنافسة متسرع.. ولم يتم إحالة أحد للنيابة    شاهد عيان يكشف تفاصيل صادمة عن سقوط ابن المطرب إسماعيل الليثي من الطابق العاشر    استدعاء ولي أمر يرفع لافتة كامل العدد بمهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي ال14    أخبار × 24 ساعة.. طرح لحوم مجمدة ب195 جنيها للكيلو بالمجمعات الاستهلاكية    احذر تناولها على الريق.. أطعمة تسبب مشكلات صحية في المعدة والقولون    نشرة التوك شو| انفراجة في أزمة نقص الأدوية.. وحقيقة تأجيل الدراسة بأسوان    د.حماد عبدالله يكتب: "مال اليتامى" فى مصر !!    5 أعمال تنتظرها حنان مطاوع.. تعرف عليهم    خبير لإكسترا نيوز: الدولة اتخذت إجراءات كثيرة لجعل الصعيد جاذبا للاستثمار    قناة «أغاني قرآنية».. عميد «أصول الدين» السابق يكشف حكم سماع القرآن مصحوبًا بالموسيقى    المحطات النووية تدعو أوائل كليات الهندسة لندوة تعريفية عن مشروع الضبعة النووي    الحكومة تكشف مفاجأة عن قيمة تصدير الأدوية وموعد انتهاء أزمة النقص (فيديو)    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن عبقرية مفهوم «النقود»
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 06 - 2014

كان أول مقرر دراسى أقوم بتدريسه فى الجامعة هو موضوع «النقود». ولم أكن، آنذاك، مؤهلاً بدرجة كافية لتدريس هذا الموضوع، فرسالتى للدكتوراه كانت فى مجال آخر،
وهو «التنمية الاقتصادية»، وأغلب أفكارها تدور حول «اقتصاد عيني» لا يكاد يكون للنقود دور فيه. وكان رئيس قسم الاقتصاد فى جامعة الإسكندرية، فى ذلك الوقت، هو المرحوم محمد غزلان، وهو شخصية من انبل وأطهر من رأيت، وقد وهب حياته للعلم بعيداً عن مظاهر الحياة ومباهجها. وعندما قلت له إننى غير مؤهل لتدريس هذا الموضوع، وإن رصيدى فيه لا يزيد عما تلقيته من مقرر وحيد وأنا طالب فى كلية الحقوق ومقرر آخر فى الدراسات العليا. فقال لى: «إن أفضل طريقة لإتقان المعرفة هى القيام بتدريسها». وكانت تجربة شاقة بقدر ما هى ممتعة، وأصبح هذا الموضوع، بعد ذلك، هو الأقرب إلى نفسي.

ظاهرة اجتماعية
أن ظهور مفهوم «النقود»، وكما كان الحال بالنسبة لظهور اللغة ثم الكتابة، هى من أهم محطات تطور المجتمعات البشرية. وجاءت هذه الظواهر نتيجة لتطور مجتمعي، ولا يمكن أن تنسب إلى مكتشف أو مخترع، بل تمثل قدرة المجتمعات البشرية، من دون الكائنات الأخري، على التعامل فى الحياة الاجتماعية من خلال «رموز». فالإنسان، ربما وحده، هو الكائن الوحيد الذى يتعامل مع البيئة من خلال أنواع متعددة من «الرموز». فاللغة مثلاً لا تعدو أن تكون رموزاً لأصوات أخذت لدى كل جماعة معانى تختلف باختلاف الجماعات. وجاءت «الكتابة»، فى فترة لاحقة، وهى نوع آخر من «الرموز» فى شكل خطوط ورسوم للتعبير عن اللغة المنطوقة. وعندما حاول الإنسان أن يكتشف قوانين الطبيعة، وخاصة الفيزياء، فإنه اخترع لغة أخرى هى «الرياضة»، وهى رموز تمثل العلاقات الكمية بين مختلف المظاهر.
فعبقرية الإنسان، هى أنه وحده من دون الكائنات، الذى يتعامل مع البيئة المحيطة به ويسيطر عليها من خلال رموز فى شكل لغة أو كتابة أو معادلات رياضية، أو نوتة موسيقية. وعندما تعلق الأمر بالجوانب الاقتصادية، فإنه لم يلبث أن استخدم قدرته على إكتشاف رموز جديدة للتعامل الاقتصادى، وفى مقدمتها النقود ومن ورائها الأصول المالية.
النقود رمز
فما هى النقود؟ النقود ليست شيئا ماديا بقدر ما هى مفهوم إجتماعى فى أشكال مختلفة من الرموز. حقاً، لقد أخذت النقود أشكالاً مادية خلال فترة طويلة من تاريخ البشر. فقد بدأت فكرة النقود فى شكل سلعة واسعة الانتشار مثل الماشية أو القواقع أو حتى مجرد أشياء تتمتع بما يشبه القيمة المقدسة. وكان كينز- الإقتصادى الإنجليزى الشهير - قد أشار إلى ما اكتشفه أحد الرحالة الأمريكيين (فيرنز Furness) بجزيرة فى الباسفيكى باسم ياب Yap، حيث يتعامل الأفراد فيها بنوع من النقود فى شكل كتل حجرية كبيرة يصعب نقلها، ويكفى أن تنتقل “ملكية” هذه الأحجار من شخص لآخر عن طريق الاتفاق، بل إن هناك أحجاماُ ضخمة من هذه الأحجار سقطت فى المحيط، ومع ذلك يتعامل بها الأفراد بمجرد الإتفاق على نقل ملكية هذه الأحجار أو جزء منها وهى فى قاع المحيط. وإذا كانت النقود قد بدأت فى شكل سلعة فإنها لم تلبث أن استخدمت معادن تسك لهذا الغرض لكى تستقر بعد ذلك _ فى معظم دول العالم _ فى المعادن النفيسة خاصة الفضة والذهب. وبعد ذلك تخلصت النقود من المعادن لتصبح مجرد ورقة، “البنكنوت”، بل وتجردت بعد ذلك من كل مظهر مادى لتصبح مجرد قيد محاسبى وهى ما يطلق عليه النقود الإئتمانية والتى تنقل الآخر عن طريق الشيك والبرق والانترنت.
ظهرت النقود الورقية (البنكنوت) فى وقت كانت فيه النقود من المعدن النفيس (الذهب والفضة)، وكان التجار يضعون أموالهم من الذهب لدى الصيارفة – خوفاً عليها من الضياع أو السرقة – وذلك مقابل “سندات” بقيمة هذه الودائع. ولم يكن التاجر بحاجة إلى سحب ودائعه والحصول على الذهب لدفع إلتزاماته لدى التجار الآخرين، إكتفاء بتحويل سند الوديعة للمالك الجديد. وهكذا بدأ التعامل فى الصفقات الكبيرة يتم بتداول هذه الأوراق (البنكنوت) بدلاً من تداول الذهب نفسه. وجاء إسم “البنكنوت” من لفظ مائدة Banco والتى كان يتعامل عليها المصرفى مع عملائه. وبعد ذلك إكتشفت هذه البنوك، أن مجتمع التجار بدأ يتقبل التعامل بما تصدره من بنكنوت ثقة فى البنوك، وقلما يطلب التجار إستيفاء هذه السندات وتحويلها إلى ذهب. وقد بدأ التعامل مع “البنكنوت”، لتسوية المعاملات الكبيرة بين التجار عبر الحدود. وهنا ظهرت الفكرة لدى هؤلاء الصيارفة، فطالما أن مجتمع التجار يقبل وثائقهم (البنكنوت) ويتعامل بها وقلما يفكر فى تحويلها إلى ذهب، فلماذا لا يقتنص هؤلاء الصيارفة هذه الفرصة ويقروضوا التجار “أوراق بنكنوت” تزيد على ما لديهم من ذهب، وبذلك يحصلون على تحقيق عائد – الفائدة – دون خسارة. وبطبيعة الأحوال، فقد راعى هؤلاء إحتمال طلب تحويل أوراق البنكنوت إلى ذهب، فكانوا يحرصون على ألا تزيد أوراق البنكنوت الجديدة على نسبة معينة مما لديهم من ذهب. ونلاحظ أن ما تحققه البنوك من مكاسب نتيجة للتوسع فى الإئتمان يعادل ما كان يحققه الملوك عند إعادة سك النقود المعدنية بأقل من أوزانها، وهو ما كان يعرف «بحقوق الإقطاعي» Seigniorage.
وقد إستمرت هذه الأوراق (البنكنوت) فى التداول، مما أكسبها ثقة ومصداقية لدى التجار، فأصبحت تتمتع بنوع من «القبول العام» على الأقل وسط التجار. وبذلك بدأت مرحلة جديدة هى ما يطلق عليه إسم «النقود الإئتمانية». فالنقود هنا هى «إئتمان» أو مديونية البنك أو المصرفي. وبذلك تجردت النقود من أى شكل مادي، فهى ليست سلعة ولا هى معدن نفيس بل هى مجرد “إئتمان” البنك. وبعبارة أخرى لم تعد النقود أكثر من مفهوم مجرد هو مديونية البنك، ويقبل التجار التعامل بها بهذا المفهوم المجرد، وهم على ثقة بأنه يمكن تحويلها فى أى وقت إلى ذهب. وهنا تدخلت الدولة لضمان الثقة فى هذه النقود الورقية بوضع الضوابط على إصدارها.
وهكذا تبلورت فكرة النقود لتصبح مجرد «رمز» يصدر من جهات موثوق فى قدرتها على الوفاء – البنوك – ويمكن التعامل بها “كرمز” مع التجار الآخرين. ومن هنا أيضاً يمكن التفرقة بين “العملة” وهى الوحدات التى تتداول فى المعاملات اليومية وبين “النقود” التى تمثل مفهوماً مجرداً لقوة شرائية يقبلها البائعون، لثقتهم بأنهم قادرون بدورهم على إعادة استخدامها، وهكذا. وهكذا لم يكن غريباً أن تظهر أنواع من النقود ليس لها أى شكل مادي. ففى القرن العشرين، وعندما رأى المجتمع الدولى فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، الحاجة إلى إنشاء صورة جديدة من النقود ذات القبول الدولي، قام صندوق النقد الدولى بإنشاء ما أطلق عليه اسم “حقوق السحب الخاصة” SDR فى شكل سلة من العملات القوية، دون ان يكون لها أى شكل مادي، ومع ذلك تصدر بها سندات أو تقوم بها أصول أخري. ومع الأسف، فإنه لم تتح لهذا الشكل الجديد من العملة الدولية للتوسع نظراً لسيطرة الولايات المتحدة على الإقتصاد العالمي، حماية لدور الدولار.
النقود دين على الإقتصاد القومي
وبالانتقال إلى مرحلة «النقود الإئتمانية» المستندة إلى مديونية البنوك المصدرة لهذه الأموال، فقد ظهرت الطبيعة الحقيقية للنقود باعتبارها ديناً على الاقتصاد القومى – كما سنشير – وإن كانت تصدرها مؤسسات تتمتع بالثقة والإحترام – البنك المركزي، والجهاز المصرفى – مما يتطلب فرض أنواع من الرقابة والضوابط على هذا الإصدار منعاً لتعريض الاقتصاد لأزمات مالية إذا أسرفت هذه المؤسسات فى إصدار مديونياتها (نقود الإئتمان) بما يجاوز قدرة الإقتصاد الوطني. وبظهور هذه «النقود الإئتمانية» بدأت تتضح تفرقة جديدة بين أنواع النقود. فهناك ما يطلق عليه النقود الداخلية Inside Money، مقابل ما يطلق عليه النقود الخارجية OutSide Money. أما «النقود الخارجية»، فهى النقود التى تعتمد على إعتبارات خارجية لا صلة لها بحجم النشاط الاقتصادي. فعندما كانت النقود تعتمد على الذهب والفضة، فإن حجم هذه النقود كان يتوقف على ما يتم استخراجه أو إكتشافه من ذهب أو فضة، وذلك بصرف النظر عن مدى التوسع أو الانكماش فى حجم النشاط الاقتصادي. وقد كانت هذه سبب محنة أسبانيا فى القرنين السادس والسابع عشر، حيث زاد حجم النقود نتيجة للإكتشافات المنجمية فى العالم الجديد (أمريكا) دون تطور مقابل فى الإنتاج المحلى مما أدى إلى غلبة التضخم بها. وذلك على عكس إنجلترا – فى ذلك الوقت – التى لم تكن لديها مستعمرات تغدق عليها الذهب والفضة ومن ثم كان إعتمادها على نمو الاقتصاد الحقيقي، فلم تكن مصادفة أن تهزم إنجلترا الصغيرة – آنذاك – إسبانيا فى حرب الأرمادا (1588). أما فى حالة «النقود الداخلية» وحيث يعتمد إصدار النقود على حجم الإئتمان فى البنوك والمؤسسات المالية، فإن حجم النقود يتغير مع تغير النشاط الاقتصادى واستجابة له. فهنا يرتبط حجم النقود مع تطورات النشاط الاقتصادي. ومع ذلك فينبغى الحذر، ذلك أن الائتمان وهو يزداد نتيجة لزيادة حجم النشاط الاقتصادي، فإن ذلك لا يمنع من إسراف المؤسسات المالية فى منح الإئتمان نتيجة للمضاربات المالية.
وظائف النقود:
إذا كان شكل النقود قد تغير مع تقدم المجتمعات وزيادة الاتصالات بين المجتمعات البشرية كما تطورت أساليب تداولها، فإن جوهر النقود لم يتغير، وكذا وظائفها، وإن تغيرت الأهمية النسبية لهذه الوظائف. وتذكر مؤلفات النقود، أن وظائف النقود ثلاث هى : «وسيط فى المبادلات»، و«مقياس للقيمة»، و«مخزن للقيمة». وإذا كانت وظيفة «الوسيط فى المبادلات» هى الوظيفة الأكثر أهمية ووضوحاً فى المجتمعات القديمة، فإن وظيفتى «مقياس القيمة» و«مخزن القيمة» قد زادت أهميتها فى العصر الحديث. ولكن يظل السؤال قائماً حول جوهر النقود. حقاً لقد عرفنا وظائف النقود، وأن كان شكلها قد تغير عبر التاريخ وهى تتحرر بشكل مستمر من شكلها المادى لتصبح أكثر تجرداً، فبعد أن كانت سلعة أصبحت ورقة، وهى الآن مجرد قيد محاسبى فى دفاتر المؤسسات المالية. ولكن ما هى النقود بالضبط وما هو جوهرها؟ هذا هو السؤال.
النقود قوة شرائية
لنبدأ بالقول بأن النقود ليست سلعة، وليست شيئاً مادياً. وإذا كانت النقود بذاتها لا تشبع حاجة بشكل مباشر أو غير مباشر، فما هى بالضبط؟ يقال إن النقود هى «قوة شرائية»، فماذا يعنى ذلك؟ النقود لا تؤكل ولا تشرب ولا هى تكسو من عراء، ولكنها تمكنك _ عندما تريد _ من شراء ما تريد من طعام أو شراب أو ملبس. فالنقود وإن لم تكن بذاتها سلعة، فإنها تعطى صاحبها «الحق» فى الحصول، فى الوقت الذى يحدده، على ما يريده من سلع معروضة للبيع. وهكذا، فالطريف فى النقود، هو ان الانتفاع المباشر منها لإشباع الحاجات يتم، للغرابة، لحظة التنازل عنها للغير مقابل سلعة أو خدمة. وهذا بطبيعة الأحوال، لا يمنع من أن تمنح النقود لحاملها متعة، حتى قبل إنفاقها، بما توفره له من شعور بالقوة والاطمئنان.
فالنقود «حق» وليست «شيئاً»، فهى «حق» يمكن صاحبه من تحويل نقوده فى المستقبل إلى ما يشاء من السلع المعروضة للبيع إذا قبل الثمن المعروض. وإذا كانت النقود «حقاً» لحاملها فمن هو المدين بالوفاء بهذا الحق؟ أليس لمفهوم «الحق» طرفان، صاحب الحق (الدائن) من ناحية، والملتزم بأداء هذا الحق (المدين) من ناحية أخري. فمن هو «المدين» إزاء حامل النقود؟ المدين هو، فى الواقع، جميع العارضين للسلع والخدمات فى الأسواق. فحامل النقود هو «دائن»، وهو يستطيع أن يستوفى حقه بشراء ما يريد من السلع المعروضة فى السوق، وعندما يدفع الثمن فإنه يستوفى حقه بالحصول على السلعة أو الخدمة، وهو بذلك يحول هذا «الحق» إلى البائع الذى لن يلبث أن يستخدمه بدوره فى المستقبل. وطالما قلنا إن المدين فى حالة النقود هو أى من العارضين للسلع والخدمات فى السوق، فإننا نتحدث فى الواقع عن مجموع «الإنتاج القومي» المعروض للتعامل. فالمدين الحقيقى إزاء النقود المتداولة هو الاقتصاد القومى فى مجموعه.والسؤال لماذا يقبل البائع، أى بائع، التنازل عن سلعته مقابل النقود؟ السبب أنه (البائع) يدرك، هو الآخر، أنه بقبول النقود فإنه يصبح صاحب حق يتمتع «بالقبول العام»، ويمكنه بالتالى أن يحصل مقابله على ما يريد من سلع أو خدمات. فقيمة النقود تستمد من المجتمع وهناك علاقة وثيقة بين معنى «قوة شرائية عامة» وبين «القبول العام»، فالنقود هى «قوة شرائية عامة» لانها تتمتع «بالقبول العام»، وهى تتمتع «بالقبول العام» لانها «قوة شرائية عامة». وإذا كان القبول العام هو فى جوهره ظاهرة إجتماعية، فإن الدولة كثيراً ما تتدخل لإضفاء صفة قانونية على النقود، وذلك بإلزام المدين بقبول النقود الرسمية وفاء لدينه، كما انها تقبل هذه النقود اداء للضرائب والإلتزامات العامة. ولكن تدخل الدولة، وإن كان يقوى من «الثقة» فى النقود، فإنه بذاته غير كاف إذا لم يصاحبه قبول عام نتيجة للثقة فى استمرار تمتع النقود بقيمتها فى المستقبل.
المستقبل والثقة
«القبول العام» للنقود له بعد زمني، فانت تثق فى النقود الآن وغداً، والبائع يقبل التنازل عن سلعته اليوم مقابل النقود، لأنه يعرف أن قيمة النقود سوف تستمر _ بدرجة او أخرى _ غداُ. فثقتك فى النقود هى ثقتك فى المستقبل، وإذا كنت ترى أن الأسعار سوف ترتفع فى المستقبل وبالتالى تقل قيمة النقود ، فإنك سوف تصر على الحصول على ثمن مرتفع لمقابلة إحتمال انخفاض قيمة النقود غداً. وهكذا فإن التضخم كثيراً ما يتحقق فى الحاضر إستباقاً للشعور بأن الأسعار سوف ترتفع فى المستقبل. وهكذا فإن «الثقة» فى النقود ضرورية لإستمرار قيام النقود بواظائفها فى التداول، فإذا فقدت هذه الثقة، أو ساد الشعور بأن قيمة النقود سوف تنهار، فإن الأمر لن ينتظر الغد بل سوف يتحقق اليوم. وهذا ما عانت منه بعض الدول فى الأزمات الكبرى مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولي، وحيث كانت قيمة النقود تنخفض ليس بين شهر وآخر بل بين ساعة وأخري، وعرفت ما سمى آنذاك بالتضخم العظيم وبدأ التعامل بالسلع بدلاً من النقود. ومعنى ذلك أن النقود وهى تربط الحاضر بالمستقبل، فإنها تعتمد على «الثقة». والحديث عن المستقبل هو حديث عن «الثقة»، فأنت لا تتعامل مع المستقبل إلا بقدر إطمئنانك إلى هذا المستقبل. ولا شك أن كل تعامل يتضمن قدراً من التعامل مع المستقبل، ومع ذلك فيظل هناك مجال يكون فيه دور المستقبل حاسماً ومؤثراً وذلك فى حالتى الادخار والاستثمار. فالمدخر يحتفظ بجزء من دخله ليس للإنفاق بعد أيام أو خلال الشهر، بل إنه يريد أن يؤمن مستقبله لسنوات وسنوات وبالتالي، فالمدخر يراهن على المستقبل. وبالمثل فإن المستثمر لا ينفق على استثماراته لكى يتمكن من الإنتاج بعد يوم أو يومين، بل يتطلب تنفيذ الاستثمارات سنوات وسنوات حتى تحقق نتائجها. ومن هنا فإن الحديث عن الادخار والاستثمار هو حديث عن المستقبل والرهان عليه، فإذا لم تكن مطمئناً له، فغالباً سوف تحجم عن الإدخار والاستثمار. ومن هنا تأتى أهمية «الاستقرار النقدي». فإذا فقدت الثقة فى الإستقرار النقدي، فالمدخر سوف يفقد الحافز لزيادة مدخراته النقدية إذا كانت معرضة للتآكل بشكل مستمر، وقد يلجأ إلى الإدخار العينى فى شكل سلع ومعادن ثمينة أو تحف أو غير ذلك، وبما لا يضيف إلى الطاقة الإنتاجية للإقتصاد. وفى نفس الوقت، فإن المستثمر المحتمل لن يجد من يقدم له مدخراته، كما أنه قد يستحيل عليه تقدير تكلفة استثماراته المتوقعة إذا كانت أسعار السلع تزداد باستمرار.
النقود والأصول المالية
يتضح الآن أن إكتشاف المجتمعات البشرية لظاهرة النقود، قد خلق «رمزاً» جديداً للتعامل مع الموارد الاقتصادية وهو رمز النقود، التى أصبحت قوة شرائية، وساعدت على التبادل وحركة التجارة بين الأفراد والاماكن المختلفة، ولكنهاأظهرت أيضاً مفهوماً جديداً هو مفهوم «الحق المالي» القابل للتداول. وكانت النقود هى أظهر أشكال هذا الحق أو الأصل المالي. وهذه الأصول المالية لم تعد تقتصر على النقود التى تمثل «قوة شرائية عامة»، بل اتسعت لتتضمن أنواعا أخرى من الأصول المالية التى تتداول فى الأسواق، مثل الأسهم والسندات التى تمثل حقوق ملكية أو دائنية على الأصول العينية القائمة. ولم يلبث أن تطورت هذه الأصول المالية لتشمل قائمة طويلة من الأصول التى تمثل أنواعاً من الدائنية أو الملكية. ومع هذا التنوع زادت إمكانية وفرص الإدخار والاستثمار، ومعها إمكانات التقدم الإقتصادي. وهكذا جاء ظهور النقود وتطورها فاتحاً لمجال هام هو مجال «الأسواق المالية»، وبالتالى زيادة فرص وإمكانات الإدخار والاستثمار. ولكن، وهنا لابد أن نكون على حذر بالغ. فهذه الأصول المالية على تنوعها، وهى تمثل فرصة هائلة للمخاطرة والإبتكار، وبالتالى التقدم والرخاء، فإنها تتضمن أيضاً مخاطر مخيفة إذا ترك لها العنان بلا ضابط أو رابط. فإذا كان نجاح النظام النقدى يعتمد على «الثقة»، فإن هذه الأصول الماليةالأخرى تحتاج بدورها إلى «الثقة»، وأن المبالغة والتهور فى إصدارها سوف يؤديان إلى كوارث مالية. فكما كان ظهور النقود نعمة، فإن المبالغة فى إصدارها بما يتجاوز قدرة الإقتصاد العينى على النمو والزيادة يؤدى إلى التضخم وانهيار «للثقة»، وبالتالى الفشل الكامل. فالنقود وكذا الأمر مع سائر الأصول المالية تعتمد على «الثقة»، والثقة لا تستمر إذا ترك الحبل على الغارب للأصول المالية بلا ضابط أو رابط. وهنا تنقلب النعمة إلى نقمة.
الرقابة والإنضباط
وإذا كنا نؤكد أن نجاح «النقود» يعتمد على الثقة والانضباط، فإن الثقة تتطلب أن يكون إصدار النقود والتوسع فيها مرتبطاً بالاحتياجات الحقيقية للإقتصاد (السوق)، ولكن «السوق» وحدها لا تكفى لضمان أن يكون عرض النقود تعبيراً حقيقياً عن احتياجات هذا الاقتصاد، إذ قد يعكس ذلك مضاربات المتعاملين بدرجة أكبر، ولذلك فإن الانضباط يتطلب تدخل الدولة لضمان اتساق التوسع النقدى مع الاحتياجات الحقيقية للسوق. وهنا نلاحظ أن الفلاسفة القدامى قد تنبهوا إلى هذه الحقائق. فأرسطو فى القرن الرابع قبل الميلاد كان يرى أن النقود ظهرت لتحسين عمليات المقايضة، وبالتالى يركز على إرتباط النقود باحتياجات السوق فى المبادلة، فى حين أن فلاسفة الصين، فى نفس الوقت تقريباً، فيما عرف بمدرسة جوانزى Guanzi، كانوا يرون أن الدولة ينبغى أن تسيطر على إصدار النقود لأنها مصدر القوة. وهكذا فالسلطة النقدية هى توازن بين إحتياجات السوق (الفيلسوف الإغريقي)، وبين نفوذ الدولة (فلاسفة الصين). ومع ذلك، فيلاحظ أن الدولة – فى كثير من الأحوال – تكون هى مصدر الإسراف النقدى عن طريق عجز الموازنة وبما يهدد الإستقرار النقدي. ويظل وجود دولة قوية مشرفة على الاستقرار النقدى أمراً لا غنى عنه.
لقد اكتشفت البشرية من خلال تطورها الطويل مفهوماً عبقرياً، وهو «الأصول المالية»، وفى مقدمتها “النقود”، مما ساعد على المزيد من القدرة على حساب التكلفة والعائد (مقياس القيم) من ناحية، وعلى اتساع تداول الموارد الإقتصادية بين الأفراد والدول (وسيط فى التبادل) من ناحية ثانية، وعلى التعامل الحكيم مع المستقبل وفرصه وإمكانياته (مخزن القيم) من ناحية ثالثة. ولكن التعامل مع هذه «الأصول» يتطلب حكمة دون مبالغة أو إسراف، والعملية كلها تقوم على أهمية «الثقة»،: والعمل على توفير الضمانات لحماية هذه «الثقة» ودعمها. والله أعلم.
لمزيد من مقالات د.حازم الببلاوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.