واحد من أسباب النزاع الناشب بين قبائل جنوب الصحراء بينما جيش المرابطين ينطلق نحو الشمال ناشرا نور الإسلام الحق فى أرجاء المغرب كان التنافس بينها على أولوية ومكاسب التجارة مع أقاليم السودان وهو تنافس عرفته القبائل البربرية منذ قديم الزمان مع تشابك العلاقات التجارية بينها وبين تلك الأقاليم كما ذكرنا سابقا، فلما مكث الأمير أبوبكر ابن عمر شهورا فى الإصلاح بين الناس وفى إرساء قواعد الوحدة الإسلامية تاقت نفسه وهو هناك فى الجنوب بالقرب من موقع رباط ابن ياسين إلى نوع آخر من التجارة الرابحة دونما أى احتمالات للخسارة فعقد العزم على أن يتنازل عن إمارة المرابطين ويترك أغمات ثم يعود إلى حيث منطلق هذه التجارة الرابحة، لذا غادر الأمير الصحراء لفترة مؤقتة ريثما يرتب أحوال الدولة الوليدة ثم يعود فتوجه مسرعا صوب أغمات وصدى تراتيل قدسية يتردد فى جوانحه فيصرفه عن كل ما فى الحياة سوى هذه البهجة النورانية التى غمرت كيانه بإشراقاتها (ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم)، حين وصلت قافلته إلى أغمات كانت روحه قد بلغت من الشفافية ما يكاد المستقبل يتكشف أمامها فيظهر واضحا جليا، لذا كان أول لقاء له مع زوجته زينب... كانت زينب بنت اسحاق النفزاوية أو الست زينب كما يطلقون عليها تنتظر عودة زوجها الأمير من رحلته فى الصحراء فإذ به يفاجئها بأنه عقد العزم على التنازل عن منصب الإمارة والرحيل من بلاد السوس إلى الصحراء ليجعلها منطلقة إلى بلاد السودان الواقعة أسفل مصب نهر السنغال للدعوة والجهاد بين قبائلها التى مازالت حتى ذلك الوقت على وثنيتها القديمة لم تصلها الدعوة الإسلامية بعد، وأنه لذلك يريد أن يطلقّها... وهنا يروى قدامى المؤرخين كابن عذارى وابن أبى زرع أنه قال لها: «يا زينب إنك ذات حسن وجمال فائق وإنى سائر إلى الصحراء برسم الجهاد لعلى أرزق بالشهادة وأنت امرأة لطيفة لا طاقة لك على بلاد الصحراء وإنى مطلقك فإن أتممت عدتك فتزوجى ابن عمى يوسف بن تاشفين فهو خليفتى على بلاد المغرب».. ثم جاءت الخطوة التالية وهى استدعاء يوسف ابن تاشفين فى حضور كبار رجال الدولة المرابطية ليشهدهم أنه قد خلع نفسه من الإمارة وتنازل عنها لابن عمه قائد الجيوش الذى عرفه الناس بالتقوى والورع وسداد الرأى والعدل والشجاعة، ثم قال له فيما يذكر المؤرخون: «يا يوسف إنى قد وليتك هذا الأمر وإنى مسئول عنه فاتق الله فى المسلمين واعتقنى واعتق نفسك من النار ولا تضيع من أمر رعيتك شيئا فإنك مسئول عنهم، والله تعالى يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل فى رعيتك وهو خليفتى عليك وعليهم»، ثم خرج مغادرا إلى الصحراء وسار معه يوسف مشيعا فأخبره أنه طلق زينب ونصحه بالزواج منها قائلا له: «تزوجها فإنها امرأة مسعودة»! فلنؤجل إذا الحديث عن تلك السعادة التى بشر بها ابن عمه إن هو تزوج مطلقته زينب ولنرتحل قليلا مع الأمير الورع الزاهد المجاهد أبى بكر ابن عمر اللمتونى الذى ترك المغنم والسلطان والمرأة «فائقة الجمال» «المسعودة» على حد تعبيره جريا وراء تجارة لن تبور. ويستوقفنا هنا أن أبا بكر اختار يوسف ابن تاشفين للإمارة بدلا من ابنه ابراهيم رغم ما عُرف عن هذا الأخير من عقل وشجاعة، لكنه اختار الأفضل لقيادة الدولة واختار لابنه السبيل الأفضل باصطحابه معه فى رحلة الدعوة والجهاد التى مرت عبر سلجماسة بداية الطريق الأفريقى بعد أن نجح فى إعادة تأهيل وتوجيه الغضب القبائلى ليصبح غضبة لله وحماسة لنشر دينه الحق فى تلك الربوع الأفريقية المترعة بالوثنية وبالجهالة وبالظلم وبالتخلف وبالفساد حتى ليروى الرحالة والمؤرخون المعاصرون من عجائب العادات الاجتماعية ما تتقزز منه النفوس ويكفى أن نعلم أنهم كانوا يخرجون إلى الطرقات رجالا ونساء وقد كشفوا عن أعضائهم التناسلية ثم يتباهون بتزيينها وباستعراضها، وقد كانوا لجهلهم لا يعرفون قيمة ما يملكون من ثروات طبيعية أهمها الذهب الذى كانوا يبيعونه للبربر مقابل الملح الصخرى المستخرج من الصحراء فى الوقت الذى كانت ترتحل فيه الأسر الفقيرة فى قوافل إلى المغرب حيث أكبر سوق عالمية لتجارة العبيد لتبيع بعض أبنائها مقابل النذر اليسير من الطعام ومن البضائع التافهة، ولقد تفشى فيهم الظلم الاجتماعى إلى درجة لا توصف فدمغتهم العبودية وأذلتهم فى حلهم وترحالهم. وهكذا بدأت خطوات الدعوة بين القبائل الوثنية جنوب موريتانيا وفى السنغال ثم باتجاه غانا القديمة التى تفككت الآن إلى عدة دول أفريقية، وقد سارت سياسة الفتح المرابطية فى بلاد السودان الغربى على النهج ذاته الذى استنه الفاتحون الأولون بدءا بالدعوة السلمية وضم من يهديه الله للإسلام إلى صفوف المجاهدين، ثم مواجهة القوى الجاهلية الظلامية التى تتعارض مصالحها الضيقة مع تطبيق الإعلان العالمى لتحرير البشر من عبودية كل شىء وكل أحد إلا خالق الكون جل جلاله، ولأن هذه القوى لا يمكنها أن تعيش وتتحرك وتنمو إلا فى الظلام فهى تواجه النور القادم بكل ما تملك من بطش لتطفئه فيصبح الجهاد ضرورة حتمية ليتم الله نوره رغم أنوفهم، وهنا تمضى سنة الله فى خلقه فينصر الله الفئة القليلة المؤمنة ويدخل الناس فى دين الله أفواجا بعدما تتحرر إرادتهم بتضحيات المجاهدين والشهداء الفاتحين الذين ضحوا بأرواحهم فى سبيل الله ونشر دينه الحق، ولقد فعلها أبوبكر ابن عمر فلنتذكر كلماته لزينب وهو يودعها قائلا: «لعلى أُرزق بالشهادة»، فياله من رزق طيب وفير لا ينقطع ويا لها من تجارة رابحة عز وغنم من رعاها وذل وخسر من ضيعها... فى تلك الأثناء كان يوسف ابن تاشفين يعد جيشه للانطلاق شمالا لتوحيد بلاد المغرب تحت راية واحدة، لكنه استهل ولايته بإنشاء مدينة جديدة لتصبح عاصمة الدولة بدلا من أغمات ولقد اختار مكان عاصمته الجديدة«مراكش» بناء على مشورة الست زينب، فكيف تم ذلك وماذا يعنى اسم مراكش؟.