أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم.. ذاك أيضا فى هندسة التاريخ.. فهكذا يتحقق لابن ياسين فى أربعة أعوام فقط من الدعوة وفق منهج ربانى قويم مرتكز على فقه المرحلة ما لم يتحقق له خلال خمسة عشر عاما من التخبط غير المدروس ومن الاحتفاء بالكثرة العددية دون نظر لجودة النوعية أو للتناسب بين صلابة التكوين ومشقة الطريق. هكذا تأتى على عجل ودون استعجال نقطة التحول من استضعاف إلى تمكين ومن انتقاء لعناصر صلبة متفردة إلى ترخص فى القبول محسوب ومن مرابطة وكف للأيدى إلى دعوة جماهيرية وجهاد عندما تنشأ بانضمام أمير لمتونة سلطة سياسية موازية للسلطات السياسية الجاهلية القائمة فى الصحراء فتصبح المواجهة بين نظامين سياسيين، كما حدث بعدما نشأ فى المدينةالمنورة نظام سياسى بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهت بذلك مرحلة (كفوا أيديكم)، وبدأت مرحلة (قاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله).. ويخايلنى هنا معنى مرتبط بهذا الإسم الكريم «يحيى»، الذى كان أول من تسمى به على وجه الأرض نبى كريم ابن نبى كريم سماه ربه ولم يسمه والداه «يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا»، ترى ألهذا التكريم يبزغ من بين ظلمات الصحراء رجلان يحملان الإسم ذاته يقبض كل منهما على زمام المبادرة، التى تدفع بقافلة التوحيد فى طريقها لنشر نور الرب تبارك اسمه ولتحيل ذلك الجدب القاحل إلى جنة وارفة؟ ترى ألهذا التكريم كان توفيق الرب سبحانه للأمير الحاج يحيى ابن ابراهيم الجدالى كى يصطحب ابن ياسين لنشر الدعوة الإسلامية فى الصحراء، وتوفيقه للأمير المجاهد يحيى ابن عمر اللمتونى كى يصبح بانضمامه وقبيلته إلى المرابطين قوة تمكين لدين الله على تلك المساحة الشاسعة من أرض الله؟ ما إن قدّر ابن ياسين أن المرابطين لن يُغلبوا من قلة بعد أن بلغ عددهم ألفا أكثرهم من ذلك الفرز الأول الصلب، الذى انتخبه الإمام ورباه على عينه حتى اجتمع بهم فخطب فيهم ودعاهم إلى الخروج لدعوة قبائل الصحراء إلى العودة إلى دين الله الحق ورغبّهم فى الجهاد فى سبيل الله وذكرّهم بالجنة وبمراتب الشهداء فقالوا له: «أيها الشيخ المبارك، مرنا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا»، هنا أيقن ابن ياسين أن الغرس الربانى قد آتى ثماره فقال لهم: «اخرجوا أنذروا قومكم فإن تابوا فخلوا عنهم وإن أبوا جاهدناهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».. وهكذا بدأ خروج المرابطين فرادى وجماعات من مصب نهر السنغال عام 447ه الموافق 1055م متوجهين بدعوتهم إلى قبائل الصحراء، وبدأت خطوات عودة الإسلام من بعد غربته الثانية بالوعظ والإنذار فمن الناس من استجاب ومنهم من أعرض فمن استجاب التحق بجماعة المرابطين كفرز ثان جاء أوان قبوله فى البناء، ثم خرج ابن ياسين بنفسه فعقد مؤتمرا عاما لرؤساء القبائل دعاهم فيه إلى العودة إلى الإسلام وتطبيق شرائعه كما أمرهم الله تعالى ثم أمهلهم سبعة أيام فلما لم يجد منهم سوى الإعراض والتلكؤ ومحاولات الالتفاف والتملص بدأ يغزو بجيشه القبائل ليسقط السلطات السياسية القابضة على أزمّة الحكم وليخلى بين الناس ودين الله فبدأ بقبيلة جدالة المهد الأول لدعوته ثم أخضع لمتونة وبعدها مسوفة، وخلال عام واحد وبعد معارك شاقة أثبت فيها المسلمون قوتهم وعزيمتهم وحرصهم على الشهادة خضعت قبائل صنهاجة الصحراء لدعوة المرابطين فبايعوا ابن ياسين على تجديد إسلامهم وعلى التوبة والتطهر وعلى إقامة أحكام الكتاب والسنة، ومن ثم بدأ دخول الناس فى دين الله من جديد وتوالى قبول الفرز الثالث، وهو ذلك الصنف من الناس الذى يؤمن بالإسلام، ويرضى بشريعته لكنه لايقوى على نصرته حال الاستضعاف، وهؤلاء يكتمل بهم البناء لكنه لا يقوى بهم من ضعف ولا ينتصر بهم من هزيمة. وفى العام ذاته اجتمع علماء سجلماسة ودرعة الواقعتين إلى جنوب شرق المغرب الأقصى، وقرروا أن يكتبوا لابن ياسين داعين إياه لتخليصهم من جور سلطان المغراوية الزناتية وبدعهم وضلالاتهم فأجاب دعوتهم، وتمكن من هزيمة المغراوية الحاكمين وأصلح أحوال البلاد وولى عليها من المرابطين، وفى طريق عودته إلى الصحراء توفى الأمير يحيى بن عمر اللمتونى بعد أن قدم خلال الفترة القصيرة، التى التحق فيها بجنود الله المرابطين خدمات جليلة للإسلام فولى ابن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر قيادة الجيش مكانه لكى تستمر رحلة المرابطين فى بلاد المغرب من نصر إلى نصر، ولكى ينتهى عصر التشرذم المناقض لطبيعة الإسلام فتتوحد بلاد المغرب كلها تحت راية واحدة.. كان هدف توحيد بلاد المغرب تحت الراية الإسلامية والقضاء على فلول الطوائف الكفرية والبدعية واضحا أمام ابن ياسين، وهو يتجه بجيشه إلى الشمال الغربى لمقاتلة الطائفة البرغواطية، التى أقامت دولتها الكافرة على إقليم تامستا منذ عام 125ه أى فى خلافة هشام ابن عبدالملك بعدما اجتمعت على رجل اسمه صالح بن طريف زعموا أنه المهدى المنتظر، وأنشأ لهم دينا خليطا من الشريعة الإسلامية والشرائع البدعية والوثنية وكونوا دولة قوية أنهكت حكام المغرب المتعاقبين على مدى ثلاثة قرون، وأججت الفتن ولطخت صفحات التاريخ المغاربى، وألحقت الهزائم بالجيوش النظامية، وكانت أحد أسباب تفتت المغرب حتى استشار عبدالله ابن ياسين قواد جيشه فعاهدوه على قتالهم حتى آخر جندى فيهم فسار إليهم عام 450ه، وجرت بين الطرفين معارك حامية أصيب خلالها الداعية الربانى عبدالله ابن ياسين بجرح قاتل فحمله جنوده إلى المعسكر، وهم فى شدة الحزن على إمامهم وزعيمهم وقائد مسيرتهم، إلا ان ابن ياسين كان يتطلع بشوق إلى لقاء ربه وإلى مرتبة الشهداء فالتفت إليهم قبل أن يسلم الروح وأوصاهم بتقوى الله والاعتصام بحبله وبأن تتوحد كلمتهم خلف من يختارونه لإكمال المسيرة. وهكذا مضى الإمام الفقيه العالم عبدالله ابن ياسين من دار العمل إلى دار الجزاء رحمه الله بما قدم للإسلام والمسلمين وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولقد اجتمعت كلمة المرابطين على أبى بكر ابن عمر ليحمل الراية من بعده.