لم يكن المطرب محمد الحلو مبالغا عندما قال فى حواره مع «الشروق» إن تترات المسلسلات سقطت فى بحر الهبوط، وإن آخر شىء محترم فى الأشكال الغنائية «مقدمة ونهاية المسلسلات» اقتحمته مجموعة من أنصاف المواهب، فأصبح شأنه شأن الأغنية العادية فقير الكلمة، والجملة الموسيقية. كلام الحلو فتح قضية مهمة وربما لم يلاحظها البعض لأسباب متعلقة بزيادة عدد المسلسلات، وبالتالى فقدنا التركيز، لكن مع مرور الوقت، وزيادة قرعة التركيز أيضا أن هناك شيئا خطأ، وأن هناك انهيارا فى هذا الجانب، خاصة أن الربع قرن الأخير شهد تطورا كبيرا فى عالم الموسيقى التصويرية، وأغانى المقدمة والنهاية بوجود أسماء كبيرة مثل عمار الشريعى، وياسر عبدالرحمن، وعمر خيرت ومحمد على سليمان، لكن على ما يبدو فإن هذه القفزة، التى استمرت ما يقرب من ربع قرن طالها الهبوط، وكأنها تحاول اللحاق بركب الأغنية العادية، وكأن أنصاف المواهب يريدون القضاء على كل شىء محترم. هذا العام شاهدنا نانسى عجرم وهى مطربة لها بريقها فى الأغنية العادة ذات الصلج بخفة الدم، لكن الغناء الدرامى له قواعد لذلك ظلمت نانسى نفسها عندما وافقت على غناء مقدمة ونهاية «مسلسل» «ابن الأرندلي»، ويشاركها الخطأ محمود طلعت، الذى وضع الموسيقى التصويرية والألحان لنصف مسلسلات رمضان، لكنه لم يكن مقنعا بالمرة فهو فى «الأرندلى» لم يحسن توظيف صوت نانسى، ولم يعالجه موسيقيا بالشكل الذى يجعلنا نتآلف معها، ونقتنع أنها من الممكن أن يكون لها دور مؤثر مستقبلا فى هذا الإطار، على عكس ما فعله مثلا الموسيقار ياسر عبدالرحمن مع روبى عندما غنت فى فيلم «ليلة البيبى دول» لدرجة أن الناس لم تصدق أن هذه هى روبى. وبالقطع الفضل هنا يعود لموهبة وفكر ياسر، الذى أصبح عفريتا الكل يحاول تقليده، ياسر عبر مشواره كان أحد أسباب نجاحات أعمال كثيرة بداية من «المال والبنون»، و«الوسية» و«الليل وآخره»، و«كناريا»، و«المرسى والبحار»، و«أين قلبى»، و«الدم والنار»، و«الضوء الشارد»، و«ياورد مين يشتريك» وغيرها، لكن كل من قاموا بتقليده انكشفوا لأن الجماهير لديها ذهن حاضر. محمود طلعت واصل اختياره لنجمات الغناء فى محاولة لفرض نفوذه، وهذه المرة اختار جنات لأداء مقدمة ونهاية مسلسل «حكايات وبنعيشها» بطولة ليلى علوى، وفى حقيقة الأمر كان العمل فقيرا فى كل شىء بداية من اللحن ونهاية بالتنفيذ الموسيقى، وأداء جنات، وفى مسلسل «ما تخافوش» اختار أحمد سعد مطرب فيلم «دكان شحاتة»، لكنه بالرغم من ذلك لم يصنع شيئا، يقنعنا به، وذهب بالعمل ككل فى أحضان جمل موسيقية تركية، ومن الواضح أن طلعت الذى قدم قبل ثلاثة أعوام حمادة عزو بشكل جيد عجز هذا العام عن إقناعنا بنفسه فهو تارة تركى وتارة عمار الشريعى، وتارة ياسر عبدالرحمن. ويبدو أن التقليد كان سمة تترات رمضان هذا العام، حيث ظهر مؤلف موسيقى آخر وملحن هو خالد جودة، وعلى حسب ما استمعنا فهو أيضا متأثر جدا بياسر عبدالرحمن لدرجة أنه اختار حنان ماضى لأداء مقدمة، ونهاية مسلسل إلهام شاهين «علشان ماليش غيرك» كأنه أراد أن يعلن تأثره بشكل صريح، ولم يكن التأثر عن غناء حنان رفيقة مشوار ياسر حتى قبل عشر سنوات بل امتد تأثره باستخدامه للكمان، والتكنيك الخاص بياسر فى العزف. وامتد هذا التأثر فى مسلسل «أفراح أبليس» واعتماد على الربابة على اعتبار أن الأحداث تدور فى صعيد مصر، وذهبت الربابة أيضا إلى روح ياسر عبدالرحمن فى أعماله السابقة «الضوء الشارد»، و«الليل وآخره». أما مسلسل «بيت العيلة» الذى وضع موسيقاه هانى شنودة وغناء عبدالفتاح الجرينى فقد وضحت حالة الفقر الفنى والإنتاجى وكأن هانى شنودة أراد أن يقول «كلف ياسيد اطبخى يا جارية»، لكن تاريخ هانى الكبير لا يسمح له بتقديم مثل هذه التجارب الفقيرة موسيقيا. ولم يقدم خالد حماد فى مسلسل يسرا «خاص جدا» البعد النفسى للأحداث واكتفى بتقديم شكل يعبر عن حالة خاصة به. الظاهرة العامة فى أغلب الأسماء التى تناولنا أعمالهم أنهم لم يقدموا البعد الإنسانى للشخصية كما يفعل الشريعى فى أعماله، فهو يغوص فى أعماق الشخصية ويقدم مادة موسيقية تعبر عنها، وتعكس كل جوانبها النفسية. وهذه هى الوظيفة الحقيقية للموسيقى التصويرية، وإلا قمنا بالاستغناء عنها، وأصبحت المشاهد صامتة بلا مؤثرات، وهذا يؤكد أن الكثير ممن يقومون بوضع الموسيقى التصويرية يعتمدون على لغة الفهلوة تارة، والتقليد تارة أخرى، وبالتالى فقدنا ميزة مهمة كانت تمتاز بها الأعمال المصرية، حالة الفقر الموسيقى، التى عليها كل الأعمال تؤكد أن كثيرا من واضعى الموسيقى تنازلوا وحصلوا على مبالغ ضئيلة لمجرد الوجود، لذلك سوف نجد أن هناك مؤلفا موسيقيا قام بوضع موسيقى وألحان سبعة مسلسلات. الاستثناء الوحيد هذا العام، والذى حفظ ماء وجه الموسيقى التصويرية هو الفنان الكبير عمار الشريعى فهو فى «الرحايا» له شكل وطعم وروح. يترجم الأحداث ويلقيها إلى الأسماع فى جمل موسيقية بسيطة وعميقة فى ذات الوقت وأعتقد أن الشريعى يغرد منفردا هذا العام. قضية الانهيار الذى أطاح بالموسيقى التصويرية سوف تفرض نفسها على الساحة خلال الفترة المقبلة. وأعتقد أنه لو ظل المنتجون وقطاع الإنتاج بالتليفزيون المصرى ينظرون إلى الموسيقى باعتبارها شيئا هامشيا فستواصل الموسيقى التصويرية الانهيار.