حين يعيش الوطن مواسم الغضب والرفض والحلم بالتغيير والخوف من المجهول والتفتيش عن مستقبل أفضل يسوده العدل والحق والمساواة وتبقى فيه الحياة محتملة والأحلام ممكنة.. قد يتخيل كثيرون أن كرة القدم لابد أن يخفت صوتها أو تتوارى بعيداً حيث لا دور لها أو مكان وسط طوفان المشاعر والغضب والرجاء والصراخ والعشق والموت من أجل الوطن.. ولم أقتنع يوماً بذلك.. فالغياب أحياناً قمة تأكيد الحضور.. والصمت في لحظات كثيرة يكون أعلى من أي صراخ.. وإذا كانت الكرة قد غابت عن صباح الثلاثاء الماضي، وخفت صوتها وتوارت حكاياتها وسط ما بدأ يجري في كل نواحي مصر وزواياها، فقد كان هذا الغياب المؤقت هو أبلغ دفاع ممكن ورد الاعتبار الضروري للاثنين معاً.. المصريين وكرة القدم.. فالمصريون المتهمون دوماً من البعض بأنهم شعب لم يعد يفكر إلا في كرة القدم ولم تعد تحركه إلا كرة القدم.. لا يهتز أو يغضب أو يفرح أو يتظاهر أو يخرج للشارع أو يعلو صوته إلا من أجل الكرة.. أثبت في الساعات الأخيرة أن كل ذلك ليس صحيحاً، وأنه قد يكون عاشقا للكرة لكنه يحب مصر أكثر مما يحب الكرة.. وفي الوقت الذي تخيل فيه الجميع أنه لم يعد هناك ما يستطيع إزالة وإلغاء تلك الحساسية والأسوار العالية والفوارق الغبية بين متعصبين لناد أو لون ضد بقية الأندية والألوان.. جاءت اللحظة التي أرغمت فيها كرة القدم جمهورها على هجر الحساسية والتعصب والأوطان الوهمية والبديلة من أجل وطن واحد ودائم هو مصر.. منذ الثلاثاء الماضي، لم يعد هناك ألتراس أهلاوي أو زملكاوي.. بل لم يعد هناك أهلي أو زمالك.. لم يعد هناك من يغفل عن القضايا والمواجع الحقيقية ليبقى مشاركاً في حروب الوهم والسخف والعبث واللهو والتعصب.. أي أن كرة القدم لم تكن المخدر الذي يهرب إليه أو به الناس من الألم.. ولكنني أتمنى أن تصبح كرة القدم من اليوم هي إحدى الساحات التي يحارب فيها الناس أي فساد أو ألم.. أتمناها لعبة حقيقية تعكس أوجاع الناس ومطالبهم.. لعبة تختصر دراما المسرح الكبير الذي هو مصر الحالمة والعنيدة والموجوعة والرافضة للركوع والخنوع والانكسار.. وفي ساحة الكرة.. وبمفردات الكرة وحساباتها وقواعدها.. نريد ديمقراطية الكرة ونزاهتها وشفافيتها.. نريد عدالة الحقوق والواجبات والفرص.. نريد إدارة للكرة تعمل في النور وبملفات مفتوحة وبلا أي حسابات أو مصالح شخصية.. نريد قانوناً يسري على الجميع وعدالة تبقى معصوبة العينين لا تحكم وفقاً للاسم أو اللون أو النفوذ.. نريد كرة بلا مجاملات أو محاسيب أو أقارب أو رجال فوق أي حساب أو مساءلة.. نريدها كرة بلا جروح أو نزيف للمال أو اتجار بمشاعر الناس وأحلامهم.. نريدها لعبة وحياة يسودها الاحترام.. احترام النفس والآخر وأي فوارق في الشكل واللون والأصول والجذور والأهواء والأفكار والقدرات والانتماء.. نريدها لعبة للفرحة والحب ولكن حين تكون هناك حاجة للجنون والغضب.. تمارس جنون التغيير حتى آخره وتغضب دون أن تخاف أو ترتعش حتى تنال كل ما تريده وتستحقه.