انطلاق الدراسة في 214 مدرسة ببني سويف    «رجعوا التلامذة».. 222 مدرسة فى الإسكندرية تستقبل طلابها فى أول أيام العام الدراسى الجديد (صور)    التعريف ب "علم مصر" في الحصة الأولى بمدارس كفر الشيخ - صور    بالصور- محافظ بورسعيد يوزع الأقلام على التلاميذ داخل الفصول    نتيجة تنسيق الثانوية الأزهرية 2024.. الرابط الرسمي للاستعلام (فور إعلانها)    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    تنمية المشروعات يقدم برامج تدريبية مجانا لشباب دمياط لدعم وتنمية مشروعاتهم    19 جنيها لكيلو البطاطس.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم السبت    بينها 37 ألف طن طماطم.. 6.4 مليون طن صادرات زراعية منذ يناير 2024    «المشاط» تبحث تعزيز الشراكة مع الوكالة الفرنسية للتنمية لتمكين القطاع الخاص    أوكرانيا: ارتفاع حصيلة قتلى الجيش الروسي إلى 640 ألفًا و920 جنديًا    إيران: الاحتلال يشعل النار في المنطقة لإنقاذ نفسه وسيحاسب على جرائمه    تصرفات متهورة من إسرائيل.. برلماني: مصر حذرت مرارًا من عواقب التصعيد في المنطقة    تشكيل مانشستر يونايتد المتوقع أمام كريستال بالاس.. جارناتشو يقود الهجوم    التشكيل المتوقع للأهلي أمام جورماهيا    محافظ القاهرة: الدولة اتخذت كافة الإجراءات لإنجاح العملية التعليمية    آخر ساعات الصيف.. توقعات حالة الطقس اليوم والأسبوع الأول لفصل الخريف 2024    قتلت بنتها عشان علاج بالطاقة.. وصول المضيفة التونسية لمحكمة الجنايات    صور| شلل مروري بسبب كسر ماسورة مياه أسفل كوبري إمبابة    انطلاق الدورة 17 من مهرجان سماع تحت شعار رسالة سلام إلى العالم (صور)    عمر عبد العزيز: "كريم عبد العزيز بيفكرني ب رشدي أباظة" (فيديو)    من هم الخلفاء الراشدين والتابعين الذين احتفلوا بالمولد النبوي؟.. الإفتاء توضح    "الصحة" تعلن خطة التأمين الطبي للمدارس تزامنًا مع بدء العام الدراسي    «بعد حبسه».. بلاغ جديد للنائب العام ضد الشيخ صلاح التيجاني يتهمه بازدراء الدين    أستاذ علوم سياسية: توسيع الحرب مع حزب الله يعرض تل أبيب لخطر القصف    وزير العمل يعلن عن وظائف في محطة الضبعة النووية برواتب تصل ل25 ألف جنيه    زاهي حواس: حركة الأفروسنتريك تهدف إلى إثارة البلبلة لنشر معلومة زائفة وكاذبة    مسار صعب يخوضه رئيس الوزراء الفرنسي .. تحديات بانتظار الحكومة الجديدة    حكاية بطولة استثنائية تجمع بين الأهلي والعين الإماراتي في «إنتركونتيننتال»    بوتين يشكل لجنة لإمداد الجيش الروسي بالمتعاقدين    أسعار الأسماك اليوم السبت 21 سبتمبر في سوق العبور    الولاء والانتماء والمشروعات القومية.. أول حصة في العام الدراسي الجديد    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    أسعار الفاكهة في سوق العبور السبت 21 سبتمبر    اليوم.. نهائي بطولة باريس للاسكواش ومصر تسيطر على لقبي الرجال والسيدات    ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز قبل الجولة الخامسة    هاني فرحات وأنغام يبهران الجمهور البحريني في ليلة رومانسية رفعت شعار كامل العدد    مجلس الأمن يحذر من التصعيد ويدعو إلى ضبط النفس بلبنان    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    ما حكم تلف السلعة بعد تمام البيع وتركها أمانة عند البائع؟.. الإفتاء تجيب    بدء التصويت في الانتخابات الرئاسية في سريلانكا    احتجزه في الحمام وضربه بالقلم.. القصة الكاملة لاعتداء نجل محمد رمضان على طفل    مدحت العدل يوجه رسالة لجماهير الزمالك.. ماذا قال؟    ضبط 12شخصا من بينهم 3 مصابين في مشاجرتين بالبلينا وجهينة بسوهاج    وفاة والدة اللواء محمود توفيق وزير الداخلية    هل يؤثر خفض الفائدة الأمريكية على أسعار الذهب في مصر؟    رياضة ½ الليل| مواعيد الإنتركونتينتال.. فوز الزمالك.. تصنيف القطبين.. وإيهاب جلال الغائب الحاضر    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    بسمة وهبة تحتفل بزفاف نجلها في إيطاليا (فيديو)    عبد المنعم على دكة البدلاء| نيس يحقق فوزا كاسحًا على سانت إيتيان ب8 أهداف نظيفة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    تحرش بهما أثناء دروس دينية، أقوال ضحيتين جديدتين ل صلاح التيجاني أمام النيابة    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    ضائقة مادية.. توقعات برج الحمل اليوم 21 سبتمبر 2024    مستشفى قنا العام تسجل "صفر" فى قوائم انتظار القسطرة القلبية لأول مرة    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأقليات في الوطن العربي وسؤال الهوية – قراءة على سبيل التمهيد
نشر في شموس يوم 21 - 07 - 2017


كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك
إن قضية الأقليات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية بشكل عام تتسم بدرجة عالية من
الحساسية، وينظر لها رغم أهميتها على أنها مسألة خطيرة، لذلك فإن مقاربة هذا الموضوع الشائك يحتاج الكثير من الدقة والروية والموضوعية والانضباط المنهجي، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي تشهد عولمة اقتصادية وتوحش الرأسمالية الصناعية التي حولت أربعة أخماس سكان الكون إلى مستهلكين يلهثون خلف توفير مقومات الحياة التي حددت أنماطها ديكتاتورية الاسواق العالمية، بذريعة تحقيق الديمقراطية في المجتمعات الناشئة، وتحت شعارات حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص .
إن العناصر المتشابكة والتعقيدات التاريخية في مسألة الأقليات تشكل واحدة من أهم الصعوبات أمام أي باحث يتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، ويضعه أمام تحديات وخيارات دقيقة، فإما أن تكون مع الليبرالية الجديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، من خلال تبني براغماتية منفعية مقترنة مع دوغمائية لا تريد أن ترى إلا جانب واحد من الموضوع، وإما أن تكون في مواجهة التحديات ، وأن تكون ضد إعادة ترتيب المجتمعات البشرية بما يتوافق مع المفاهيم الجديدة التي ينتجها الاقتصاد العابر للقارات، وبذلك قد تجد نفسك متهماً بتجاهل حقوق الأقليات والتفريط بها، أو التوجس منها في الحد الأدنى.
يشهد العالم خلال العقود الأخيرة عولمة اقتصادية- تؤسس لعولمة ثقافية واجتماعية- تعتمد على مبدأ توحيد الاقتصاديات الوطنية ودمجها في الاقتصاد العالمي الذي تسيطر عليه الشركات العملاقة، المتعددة الجنسيات- عابرة للقارات- التي تسعى خلف تكديس الثروات من خلال اعتماد سياسات اقتصادية تفترس الأضعف، وأهمها الشركات الأمريكية المنفلتة من عقالها.
وتستخدم هذه الاقتصاديات الثورة الإعلامية والتقنية والتقدم الهائل الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، وتوظفها من أجل تحقيق أهداف الاحتكارات الكبرى في تفكيك وتفتيت البنى الوطنية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتمزيق روابط الدولة الوطنية، وتقويض ركائز الهوية القومية، من خلال أساليب متعددة لعل أهمها هو محاولة إحياء الهويات ما قبل الوطنية بهدف جعلها بديلاً عن علاقات المواطنة التي هي أساس قيام الدولة الحديثة التي حلت قضية الأقليات حلاً ديمقراطياً.
ويمكن تصنيف المجتمعات البشرية إلى ثلاثة نماذج من حيث التنوع الديني والمذهبي والقومي والعرقي واللغوي والثقافي، أولاً هي المجتمعات التي تحتوي فسيفساء ومجموعات وكيانات غير قابلة للاندماج مع بعضها البعض، وثانياً المجتمعات التي تضم مجموعات نقية من حيث العرق أو القومية أو الدين، وهي مجتمعات صافية لا وجود للأقليات فيها، وبين هذان الحدان تقع المنطقة التي تضم المجتمعات القائمة على التنوع والتعدد العرقي والديني والمذهبي وهي مجتمعات قابلة للاندماج فيما بين مكوناتها.
الدول العربية باستثناء لبنان، يقع ضمن التصنيف الثالث، فالمجتمعات العربية تتسم بالتنوع الديني والمذهبي والعرقي والقومي واللغوي والثقافي، ورغم هذا التنوع والتعدد إلا أنها مجتمعات قابلة في ذات الوقت للانصهار والاندماج فيما بينها، تظل الحالة اللبنانية عربياً تحتاج إلى البحث عن حلول ومخرجات علمانية ديمقراطية جذرية، كي لا يظل الوضع في لبنان كالقنبلة الموقوتة تنتظر إشعال فتيلها.
لقد قطعت المجتمعات العربية خطوات مهمة في طريق الاندماج الاجتماعي والوطني لبناء دولة المواطنة الحديثة، وهذه المجتمعات كانت قد صدت كافة محاولات الاستعمار المباشر في تقسيمها إلى دويلات متناحرة، وظلت مع مرور الوقت عصية على التفتيت وحافظت على وحدتها الوطنية.
إن قيام الفكر القومي التقليدي والقوميين الجدد بتجاهل موضوع الأقليات، من خلال الهروب إلى الأمام وعجزه عن ملامسة ملامح الإشكالية، واتهام الخارج بأنه من يسبب الاضطرابات والأزمات الداخلية في بعض الدول العربية، متناسياً أن وجود الأقليات في هذه الدول أقدم من مرحلة الاستعمار، ويغيب عن هذه الأنظمة أن عدم وجود رؤية موضوعية للتعامل مع الأقليات ومع خصوصياتها هو ما يجعل من هذا الموضوع مشكلة، وأن المقاربات غير الديمقراطية هو ما يجعل من مسألة الأقليات أزمة داخلية، وهو ما يوفر عوامل انفجارها، ويمهد الطريق للتدخلات الخارجية.
نحن أمام قضية تعود جذورها التاريخية إلى مرحلة ما قبل الفتوحات الإسلامية، إن ظهور الإسلام وانتشاره انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية لم يلغي الديانات والمذاهب التوحيدية الأخرى، بل جعل أتباع هذه الديانات في ذمة المسلمين، ذلك لأن الدين الإسلامي هو دين يقوم على التوحيد والوحدة والتعدد.
إلا أن الانشقاق الذي حصل بين صفوف المسلمين على أثر معركة "صفين" أو ما يعرف بالفتنة الكبرى في العام 37 هجرية، كان من نتيجة هذه الحرب ظهور مذاهب إسلامية جديدة تعمقت الاختلافات فيما بينها مع الوقت حتى وصلت لقضايا العقيدة ذاتها.
ثم دخل الإسلام أمم وأقوام شتى، تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الاثنية أو اللغوية الثقافية، وضمت الدولة ثم الامبراطورية الإسلامية مللاً وديانات ومذاهب وقوميات وأعراق مختلفة ومتعددة، دخلت جميعها في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي الإسلامي بشكل كلي أو جزئي، واستمرت حالة التعايش بين هذه المكونات عقوداً طويلة، ومع قيام دولة الخلافة العثمانية ظهرت الدولة المركزية العسكرية وبدأت قضية الاقليات بالظهور وأخذ بعض أركان دولة الخلافة في تسييس هذا الموضوع الذي تعمق أكثر مع انهيار الخلافة العثمانية وظهور النظام الرأسمالي الذي ابتدع نظام حماية الأقليات، وجاء الاستعمار الكولونيالي لتنتشر سياسة فرق تسد.
إن مرحلة الاستعمار في العالم العربي شهدت تأثر المنطقة ببعض إنجازات الثورة البرجوازية الديمقراطية الاوروبية، ومنها قضايا حقوق الإنسان التي تم سنها في الدساتير الأوروبية، وتعامل الاستعمار مع الأقليات بصورة تظهره على أنه حامي مصالحهم و وجودهم، وفي بعض الدول حاول المستعمر دمجهم قومياً عبر تشريعات، لكن الأكثرية الإسلامية رفضت وتصدت لهذه المحاولات بسبب رفضها أساساً الاستعمار على أراضيها وبالتالي رفضها لأي سياسات يحاول فرضها عليهم، ثم أن الأكثرية المسلمة رفضت أيضاً محاولات الاستعمار في تغريب المسيحيين المشرقيين، هذا الأمر خلق نوعاً من التصادم بين المجتمعات العربية المسلمة التقليدية، وبين الأفكار الغربية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى تعقيد مسألة القوميات، ووضع العراقيل أمام الحلول الديمقراطية لاندماج هذه الأقليات بمجتمعاتها، وهكذا ظلت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولاً تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة مربكة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها وإغلاقها، وأهمها قضية الأقليات، وهكذا وجدت هذه المجتمعات أنها غير قادرة على العودة إلى نظام الذمة القديم في عهد الدولة الإسلامية، ولا هي قادرة على القيام بثورة ديمقراطية تؤسس لمعالجة جذرية سلمية وعصرية وديمقراطية لقضية الأقليات، وهذا واحد من أهم الأسباب التي جعلت من هذه الإشكالية في العالم العربي أزمة طائفية طاحنة تلخص أزمة الأمة، وتحتوي فتيلاً قد يشتعل في أية لحظة ويحرق اليابس وما بقي من الأخضر في عموم المنطقة .
لكن ما الذي جعل من موضوع الأقليات في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتضخم ويتخذ هذا القدر من الحدة القابلة للتفجر؟
بظننا أن الحقبة التي تم فيها اكتشاف البترول شكلت بداية ما أسميه سلسلة من الانتكاسات تعرضت لها عموم المنطقة حيث أعقبتها استهدافات متتالية لم تتوقف لغاية الآن من قبل القوى الاستعمارية العظمى هدفها السيطرة على ثروات المنطقة ونهبها وكذلك السيطرة على عقد المواصلات والمعابر المائية التي تضمن للدول الغربية استمرار تدفق النفط، وصول بضائعها إلى الأسواق المستهدفة.
فظهرت شعارات "حماية الأقليات" و"حقوق الأقليات" وهي شعارات تعني أن هذه الأقليات مهددة من "الأكثرية"، ويصار إلى الإشارة للأقليات بالاسم الواضح من حيث العرق والدين والمذهب واللغة والثقافة والتاريخ، ويشار أنه في المقابل توجد أكثرية كتلة واحدة كبيرة ومتجانسة تهدد الأقليات الصغيرة والضعيفة.
لكن في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في العالم العربي، ولا يوجد اقليات ثابتة من حيث التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا يمكن تصوير الأمر على أنه لدينا اقلية تواجه أكثرية ثابتة.
إن الواقع في المنطقة يشير إلى وجود أكثريات واقليات متنوعة بتنوع المعايير والمقاييس التي يعتمدها طرف من الأطراف للتمييز فيما بين هذا التنوع، فإذا كان معيار التمييز اثني قومي كانت الأكثرية عربية والأقليات أمازيغية، وكردية وأرمينية وآشورية و سريانية وتركمانية وشركسية وشيشانية.
وإذا كان المعيار دينياً فإن الأكثرية مسلمة، والاقليات مسيحية وايزيدية والصابئة المندانيون واليهود.
أما إن كان المعيار مذهبياً فالأكثرية سنية، والأقليات درزية وعلوية وشيعية واسماعيلية.
في الوطن العربي تعدد وتنوع واختلاف وتعارض، في الوطن العربي جماعات قومية ولغوية ودينية وثقافية ومذهبية وعرقية واثنية وطوائف وطرق صوفية يوجد مسلمين ومسيحيين ويهود ويزيديين وغيرهم، لكن المهم والأهم الإيمان أنه لا وجود لتعدد وتنوع من غير وحدة، ولا وجود لاختلاف وتعارض من غير تماثل وتشابه، وهذه الرؤية تجاهلها المستشرقون وتجاهلها الغرب ويتم تجاهلها من قبل المستغربين الجدد الذين شرعوا في التقوقع داخل مجتمعاتهم وقاموا بهدم الجسور التي تربطهم مع الشرائح الاجتماعية الأخرى" الأكثرية" بدلاً من تعزيز وتقوية قنوات التواصل، وبدأوا بالتحريض ضد ما يعتبرونه الأكثرية لإثارة الفتنة بين مكونات هذه المجتمعات بهدف تمزيق أواصر ترابطها كخطوة نحو المطالبة بالانفصال.
إن حقوق الإنسان بظننا لا تستقيم دون احترام قيم الوحدة والتماثل، ولا يمكن أن تكون مفاهيم حقوق الإنسان قضايا انتقائية على الطريقة الأمريكية، لأن البشر مختلفون منذ الأزل وسوف يظلون كذلك، لكن تجمعهم الإنسانية، فمن يقول أن الأمازيغ في دول الشمال الإفريقي ليسوا فقط مختلين عن العرب، بل مختلفين حتى فيما بينهم أيضاً؟
ومن يقول أن العرب مختلفين فقط عن الأكراد على سبيل المثال، بل هم أنفسهم مختلفين كعرب فيما بينهم؟
وكذلك حال المسيحي واليهودي والآشوري والتركماني والأرمني والشيعي والعلوي، جميعهم مختلفون عن الآخرين لكنهم أيضاً مختلفين فيما بينهم بنواحي عديدة.
كل هذه الاختلافات بين ما يسمى الأكثرية والأقلية، وبين مكوناتهما هو اختلاف طبيعي وموضوعي وإنساني، لكنه يفترض المساواة أخلاقياً وقانونياً، فلولا هذه الاختلافات لما كانت هناك حاجة إلى المساواة، فالاختلاف يستدعي ويتطلب مساواة سياسية واجتماعية وحقوقية أمام سلطة القانون في دولة منية حديثة، دولة المواطنة التي ترعى جميع مكوناتها دون تمييز.
إن المساواة البشرية في الحقوق والواجبات في هذه المجتمعات لا تعني باي حال إلغاء الفروق بين مكونات المجتمع، لأن إلغاء الفروق يؤدي إلى العدم والقفز في الهواء، فالمساواة الوطنية أمام القانون هو مفهوم قائم على مبدأ تساوي جميع أنواع إطلاقاً، والعلاقة بين المساواة والاختلاف هي نفسها العلاقة بين الذات والوجود، ومن هنا فإن قضايا حقوق الإنسان برمتها يمكن مقاربتها ضمن سياق هذه المفاهيم الديمقراطية، وما حقوق الأقليات سوى غصن من الأغصان.
إن الاختلاف في الوطن العربي كما بقية العالم هو واقع موضوعي، والعبرة تكمن في إدراك الأقليات لاختلافهم بشكل علمي وحضاري وديمقراطي ضمن إطار دولة المواطنة، باعتبارهم مواطنين على ذات الدرجة من المساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية، وليس باعتبارهم أقلية عرقية أو دينية، ودون إذكاء الروح القومية والعصبية لديها، وإدراك الجماعات الأخرى لهذا الاختلاف واحترامه، والعمل سوياً من أجل تعزيز التلاحم الوطني الداخلي فيما بينهم.
إن حرمان الأقليات من حقوقها من قبل الأكثرية من شأنه أن يؤدي إلى عزلة هذه الجماعات عن المجتمع، ويولد لديها وضدها نعرات قومية ودينية، وقد تبدأ هذه الأقلية في بناء الأسوار كي تحمي نفسها وتحاول أن تحفظ حقوقها ومصالحها، لكنها سوف تجد نفسها سجينة داخل هذه الأسوار، وهكذا تنشأ الحواجز الاجتماعية فيما بين الجماعات المكونة للمجتمعات، وتنغلق هذه الجماعات على نفسها، حينها لا يمكن أن ترى هذه الجماعات سوى مصالحها الخاصة، ولا ترى في مصالح الآخرين سوى أنها عقبات وإشكاليات يتوجب إزالتها، وهكذا تنمو مصالح ومفاهيم جديدة يصبح مع الوقت من الصعب إدماجها في المجتمعات، وهنا تبدأ الايديولوجيات المنغلقة بالظهور، وتجد من يعمل على نشرها وترويجها، وتجد العديد من الناس ممن لديه الاستعداد للقبول بها على أنها حقائق ومسلمات، متغافلين عن البديهيات التي تؤكد أن العلاقات الاجتماعية دوماً تحتوي في طياتها آليات معقدة وعناصر متعددة ومركبة، تتضمن قابليات التماثل للاندماج والوحدة، وكذلك عوامل التنافر والاقصاء، ولذلك فإن مسألة الاقليات ليست مرتبطة بكيانات منغلقة ومنعزلة، ولا بهويات ثابتة، ولا بمكونات حجرية، بل أنها ترتبط بنمط وشكل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ومستوى تطور هذه العلاقات، وكذلك بمستوى الوعي الاجتماعي والحياة المدنية في هذا المجتمع أو ذاك.
تتفاقم مسألة الاقليات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في أعمال العنف السياسي وعدم الاستقرار في هذه المجتمعات، وفي الغالب فإن أهم أسباب تفجر العنف يعود إلى فشل الأنظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية التاريخية، وبالتالي عجز هذه الحكومات عن تقديم حلول جذرية لهذه القضية بدلاً من المحاولات المستمرة لاحتوائها وتجاهل الأسباب الموضوعية الكامنة وراء تصاعد العنف، وهناك أسباباً أخرى متعلقة بظهور خطاب قومي متطرف ومتشدد لدي بعض قادة الأقليات يدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، ويتبنى العنف في مواجهة الدولة، ويحرض على عدم الاستقرارالسياسي، الأمر الذي يولد خطابات متطرفة من الجانب الأخر، وهو ما يدخل هذه المجتمعات في دائرة الفوضى والفشل.
إن الاكتفاء بالمقاربات الأمنية فقط لمعالجة قضية الأقليات، دون الالتفات إلى خلفيات ومسببات الاحتقان الاجتماعي لدى الأقليات، سوف يؤدي إلى تراجع هذه القضية ثم إلى ظهورها مرة أخرى بشكل أزمة أشد خطراً مما كانت عليه.
إن الأقليات في هذه المنطقة جزء مهم ومكون رئيسي من هذه المجتمعات التي يفترض أن تستمد قوتها من تعددها الديني والعرقي واللغوي والثقافي، ويجب أن يكون هذا التنوع سبباً لإثراء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإغناء لقيم المواطنة والتسامح والانفتاح، بدلاً من الانغلاق والتعصب والشعور بالدونية أو التعالي.
يحتاج الفكر القومي المشرقي عامة- بما ذلك سكان شمال إفريقيا- والعربي خاصة إلى التحرر من هاجس وعقدة المؤامرة، كي نتمكن من تأكيد الطابع الإنساني للأكثرية التي تنتمي مع الأقلية إلى الدولة الحديثة باعتبار الجميع مواطنين متساويين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتصان كرامة الجميع وحقوقهم الأساسية في دساتير تنظم مجتمعات متمدنة لا فضل فيها لأحد على أحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.