الجدل الدائر الآن فى اللجنة التأسيسية للدستور أو فى خارجها حول ما يسمى «بمواد الهوية» هو جدل ينتمى إلى القرون الوسطى، وفى بعض حلقاته يكاد يكرر مشاهد من أشد فصول هذه القرون بؤساً، ويجاهد بعض أبطاله المعاصرين لتقمص أدوار طواها التاريخ وشيعها الزمن بأحط ما توصف به هذه الأدوار، والجدل الصاخب الزاعق التكفيرى يعيد إلى الذاكرة التاريخية هتافات فرسان الهيكل وجنود السيد المسيح فى الحروب الصليبية ومذابح العثمانيين فى البلقان وأوروبا الشرقية، بل وفى العالم العربى، وقد يكون لهذا الجدل وجوه إيجابية تصب فى مجرى الإصلاحات السياسية والديمقراطية، لكنّ له وجهاً سلبياً يظهر حين تقفز من خلاله قوى غير ديمقراطية وغير عقلانية إلى صدارة المشهد السياسى، وحين يغذى هذا الجدل نعرات التعصب الدينى والمذهبى، ويؤجج النزعات الطائفية والعرقية والهوس الدينى، والاقتتال الأهلى. ومن سوء الطالع أن عوامل كثيرة -داخلية وخارجية- تضافرت منذ سنوات لإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة وعلى الدولة، وارتدت بنا القهقرى إلى أشكال الانتماء الغريزى للجماعات الأولية، القبيلة والعائلة والدين والطائفة والجهة، وهبطت بأسقف الانتماء إلى ما دون سقف الانتماء الوطنى، وقد تدفع بها جميعاً إلى الصراعات الطائفية والدينية وتمزيق الهوية الثقافية الوطنية لصالح هويات وخصوصيات ثقافية صغرى ضيقة والوصول إلى مرحلة سماها المفكر العربى برهان غليون «التعويم التاريخى للمجتمع»، حيث تنهار الأعمدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التى يرتفع عليها سقف الانتماء الوطنى وتستند إليها التوازنات الاجتماعية والسياسية، ويصبح المجتمع نفسه مكشوفاً لأنواع شتى من الاختراقات والتأثير الخارجى بما فى ذلك التأثير فى وحدته الوطنية وإذكاء الحروب الأهلية والفتن الطائفية. وثمة نوعان مختلفان من تلك الطائفية؛ طائفية دينية ومذهبية، ويقصد بها علو نبرة الاعتداد بالمذهب أو الديانة فى مواجهة الدولة الوطنية، بحيث تتراجع المطالب بإصلاح سياسى واقتصادى عام يستظل به المجتمع بكل مكوناته وشرائحه وتختزل فى مطالب جماعات طائفية معينة تشعر بالغبن والتجاهل، وقد تتعرض لعدوان على حرياتها الدينية وخصوصياتها الثقافية، وبدلاً من أن تتحرك هذه الجماعات فى إطار الجماعة الوطنية ومنظماتها الحزبية والمدنية الوطنية، وتجتهد مع غيرها من المواطنين فى إيجاد آليات أقوى للاندماج فى سياق حركة وطنية ديمقراطية واسعة، بدلاً من ذلك تتخذ سلوكاً مغايراً يعمق الطائفية ويهبط بأسقف الانتماء إلى ما دون سقف الانتماء الوطنى، كالدين والطائفة والمذهب. وقد كان تربع تيار سياسى دينى فى مواقع السلطة والتشريع إيذاناً بإطلاق موجة من العنف الدينى من عقاله طالت كل ألوان الطيف الدينى والطائفى كالأقباط والشيعة، بلغت حد ارتكاب مذابح دامية مروعة ضد الأقلية الشيعية فى أبوالنمرس أو إحراق وتدمير الكنائس والقتل على الهوية كما حدث فى كنيسة العذراء بالوراق. وقد يؤجج ظهور فضائيات إعلامية دينية إسلامية كانت أو مسيحية الهوس الدينى والنزعات اللاعقلانية، ويساعد على تعطيل دور العقل النقدى، ويغذى -على الجانبين- روافد التعصب والكراهية. وهناك -فضلاً عن الطائفية الدينية- طائفية عرقية وجهوية وهى لا تشكل خطراً فى بنية متجانسة بشرياً وعرقياً مثل المجتمع المصرى يصعب فيها التمييز إثنياً وحضارياً بين المصرى القبطى والمصرى المسلم، وإن كان البعض -بتأثير المحاكاة- يحاول افتعالها، ويشط بخياله، ليتصور أن هناك إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً ضد أبناء النوبة!! فهم محرومون من الفرص والمناصب العليا والوظائف المرموقة فى الإعلام والخارجية وغيرهما، ويتطرف البعض الآخر، فتنطلق منه -بوعى أو بغير وعى- نعرات عرقية مصطنعة كالأمازيغية ويشكك فى الوحدة الوطنية المصرية، حين يرى فى القول بأن «الوطن سبيكة واحدة» فكرة أضرت بالأقباط والنوبة والبدو، وكأن التعددية العرقية والثقافية والدينية نقيصة تبرر التفكيك والتقسيم والانفصال، ونسى هؤلاء أن التعدد والتنوع ميزة حضارية وثقافية حفظت لبلدان كثيرة تماسكها الاجتماعى وتكاملها القومى مثل الهند التى نجحت فى إدارة هذا التنوع فى إطار الوحدة عبر آليات الديمقراطية. وقد يقال إن الدفاع عن الهوية الكبرى -الهوية الوطنية- هو فى التحليل الأخير معركة ثقافية، لكن هذه المعركة لا يمكن كسبها إلا فى سياق إنجازات اقتصادية وسياسية، وفى إطار مشروع قومى للتجديد الحضارى ليس له إلا بديلان أحلاهما مر، وهما الأصولية الرافضة للغرب والتحديث، والليبرالية اللاعقلانية اللاهثة وراء الاندماج المطلق فى الغرب. فالأولى دعوة للاغتراب فى الماضى والاحتماء به، والثانية دعوة للانفصال عن الواقع والاغتراب فى المستقبل، هدفها التمكين للهيمنة الأجنبية، أما الثقافة التى يمكن الدفاع عنها باسم الهوية الوطنية، فإنها يجب أن تخرج من الخصوصيات الضيقة وتتحرر من قيد المطلقات الأصولية والميتافيزيقية وأن تقوم على العقلانية والديمقراطية والنقد والاختلاف والتنوع وإعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة والانتصار لحقوق الإنسان والمجتمع المدنى، وذلك خلافاً لهوية تنشأ فى ظل دولة غير ديمقراطية لن ينتج عنها إلا هوية مغلفة تجدد أطراً للانتماء للهويات الصغرى سابقة للدولة - الأمة. وتفتح الباب على مصراعيه للتفتت والتوترات الطائفية والنزاعات الأهلية. ويمكن لقوى خارجية أن تستخدم هذه التوترات الطائفية وقلق الأقليات ذريعة للتدخل السافر فى الشأن الوطنى، وهو ما يتطلب أن تقوم الدولة بحشد طاقات المجتمع وشحذها فى الاتجاه الصحيح، من خلال «مشروع قومى جديد» تتناغم فيه الجهود والهمم وتتوزع فيه مكاسب التنمية والديمقراطية بالتساوى اجتماعياً وجهوياً، وتزدهر فى ظله الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية للنساء والجماعات والمناطق المهمشة، فلا يحظى سكان العواصم والأقاليم الحضرية والذكور بغالب فرص التنمية وتؤول الفتات إلى غيرهم، وهو ما يولد حقداً طائفياً وطبقياً يزعزع أركان التماسك القومى والاجتماعى ويفتح ثغرات -يمكن تلاشيها- فى جدار الأمن القومى، إن المواطنة علاقة يحددها القانون والمؤسسات الرسمية والمدنية وهى علاقة تكفل التكافؤ بين الناس فى الحقوق والواجبات، وتنهى أسباب التفكك والتمييز والاستبعاد والتهميش على المستوى الوطنى، وما قد يجره من فتن طائفية ونزاعات أهلية داخلية تستدعى للذاكرة بقوة الحالة السودانية، وتستحضر المشهد المأسوى فى العراق، وكلاهما دولتان توشك الفتن والحروب الأهلية والتدخل الأجنبى أن تمزق أوصالهما لا لشىء إلا لغياب الديمقراطية وحقوق المواطنة وتفشى الاستبداد السياسى والتمييز العرقى والدينى والثقافى فى كل منهما.