نستطيع أن نجتمع معاً حول قيمنا المصرية الأصيلة، كما اجتمع صوم البتول العذراء مريم وصوم شهر رمضان المبارك، في رسالة محملة بالمعاني التي افتقدناها كثيراً في سنوات الإرهاب العجاف التي كادت تبتلع كل موروثنا المصري المتميز ، لكنها لم تستطع، ولعلنا نلحظ أن للسيدة مريم العذراء القديسة خصوصية أثيرة عند جموع المصريين، حتي لا يكاد يخلو بيت مصري من اسمها يطلقونه علي إحدي بناته، لا فرق بين مسلم ومسيحي، فهي عندهم رمز للطهر والعفاف، ورمضان ذلك الشهر الكريم تكاد تجزم أنه مصري مائة بالمائة، في طقوسه ويومه وليله، ما بين سهراته ونوعيات الأكل التي تقترن به دون غيره، وروح المودة والألفة ، ولا نستغرب عندما يشق عليك أن تعرف في الشارع في نهار رمضان من المسلم ومن المسيحي، فالمسيحيون يكونون أحرص علي عدم الإجهار بالإفطار أمام اخوتهم المسلمين، مراعاة لمشاعرهم، بل يقاومون كل دعوة تأتيهم من زملائهم الصائمين بالأكل بأي شكل من الأشكال، وتراهم متحلقين حول مائدة الإفطار في المحال التجارية والتجمعات الشعبية كلاهما معاً، في منظر لا يتكرر إلا في قرانا ونجوعنا ومدننا، وقبل أن تداهمنا هجمة الفضائيات التي أفسدت مناخ الخشوع والروحانية التي للشهر الفضيل، كانت الإذاعة المصرية تجمعنا حولها نتابع بشغف حلقات ألف ليلة وليلة ، وتخلق داخلنا ثراء من الخيال المبهر بما لم يصنعه ابهار وامكانات الصورة الملونة والمؤثرات التقنية التي حجمت خيال وإبداع الحكايات، ونتنافس في حل فوازير الإذاعة ، ونكمل سهرتنا بالحي العتيق بالحسين وخان الخليلي، وهو طقس توارثه ابناؤنا ويترقبونه من السنة للسنة، وفي ظني أننا مطالبون بإعادة الحياة لتلك الوشائج المصرية التي كانت كخيط المسبحة تجمعنا في رباط انساني لا ينفصم، واعتقد أننا نقدر علي هذا، وهو مرتبط بالعودة إلي مفهوم الصوم في صورته النقية التي تجعل منه فرصة للتخفف من مطالب الجسد، وتحول الذهن الي التأمل فيما بعد الحياة الدنيا وكيفية الالتصاق بالله والتمتع بالعشرة معه وفي معيته، ولعل هذا ما لفت السيد المسيح نظرنا إليه عندما لاحظ تحول الصوم عند اليهود إلي ممارسات روتينية لا تملك أن تغير القلب ولا أن تقوم السلوك فيخرجون منه كما دخلوا بل وربما اسوأ، فقال لسامعيه: ومتي صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين. فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.الحق أقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم، واما انت فمتي صمت فادهن راسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذي في الخفاء.فابوك الذي يري في الخفاء يجازيك علانية ، وهو عين ما يقول به الفقهاء في كل الأديان، فالصوم هو لله سبحانه تقرباً واستعطافاً وطريقنا للتوبة الحقيقية. فهل نعقد العزم علي أن نترجم تلاقي الأصوام الي فعل علي الأرض لتلاقي القلوب نحب بعضنا بعضاً كفعل ينتجه حبنا وتقربنا من الله سبحانه؟، وهل نفسح للتراحم مكاناً في قلوبنا يستوعب كل الناس الغريب قبل القريب؟، وهل نقدم للعالم من حولنا نموذجاً مصرياً لترجمة الدين وفروضه وطقوسه ودعوته الي واقع معاش نستلهمه من اسلافنا العظماء الذين عاشوه في بساطة وقوة قبل أن تسعي الرؤي المتشددة والمتصحرة لاختراقنا وتدمير قيمنا وتماسكنا، تعالوا نرد الهجمة بمزيد من التمسك بمصرية ايماننا الوسطي، ونحن قادرون.. كل سنة وكلنا طيبون متماسكون منتجون منتصرون علي الذات والعالم ومصرنا بخير.