كان الطريق ممتدًا أمامهم كالحرير. البحر المعتم من جهه والجبال الشاهقة من جهة أخرى. سكن الليل وملأ الظلام دروبه، وفي الليل والظلام يُبعث أهل الهوى وتملأ مناجاتهم هذا الهدوء. ظلام دامس لا شيء يضيئه سوى أنوار كشافات السيارة، موسيقى هادئة تنبعث من السماعات الخلفية. جلسا الأثنان صامتان. العيون تحكي بما يعجز اللسان النطق. كان الوضع ينذر بالعاصفة التي تسبقها الهدوء. ويشبه البركان الذي تغلي حممه قبل الأنفجار. حالة من التربص والحذر الغير معلن. الثواني تمر ببطء. التوتر يزداد. دقات القلوب تعلو خفقاتها علي نغمات الموسيقي. والطريق لبيتها أصبح طويلاً. كان شعرها الطويل المموج ينسدل علي كتفيها، تتطاير بعض خصلاته يمينًا ويسارًا ويزعجها، تحاول إزاحته بيديها، لكن الهواء كان شديدًا لم تستطع السيطرة عليه، فأغلق النوافذ، ثم رفع يده عن عجلة القيادة ليزيح تلك الخصلات التي تزعج عينيها. بدأ يربت بحنو علي شعرها، ثم جذبها برفق ليقربها من صدره. أتسعت عيناها وبرق بصرها، وبدأت تقاومه برقة دون أن تتفوه بكلمة واحدة إلي أن أفلتها. أعاد يده مرة أخرى لعجلة القيادة وهو يرمقها بنظراته خلسة ليواري خجله مما فعله. لكن ما حدث كان اكبر من تجاهله أو تجاوزه، فتلك كانت المرة الأولي التي تخترق فيها مشاعره حاجز الصمت ويتصرف بصبيانية لم تعتادها منه. أدار رأسه تجاهها ثم التفت مرة أخرى للطريق ثم قال:- – لا يجوز… ما تشعرين به تجاهي لا يجوز، تعلمين أني لست بعربيد ولا خائن للأمانة، ستتزوجين من صديقي بعد شهور قليلة. استرسل حديثه قائلاً بالأنجليزية:- – حاولنا من قبل لكن الأمر لم ينجح، كلانا يرغب من الحياة ما لا يرغب فيه الأخر. وها انتِ ذا ستتزوجين من أقرب صديق لي، انتِ تعقدين الأمور وتصعبين علاقتنا ببعض. أندفع أكثر بالسيارة وهو يحملق في الطريق بغضب، والتفت إليها مرة أخرى وهي صامتة ولا يظهر علي ملامحها أي تعبيرات، ثم خبط بيده علي عجلة القيادة ومسح بعنف علي شعرة ليهدأ من عصبيته، ثم اغلق الراديو قائلاً بصوتٍ حاد:- – ما هذه الموسيقى الهادئة السخيفة التي نسمعها؟! ثم نظر إليها قائلاً:- – انا لا أستمع ابدًا لموسيقي موتزارت المملة التي تستمعين إليها، أحب الهاوس فقط…. أما هي فكانت تستمع لحديثه ودمها يغلي في عروقها، تحاول السيطرة علي نفسها وعلى أعصابها حتي لا تنجرف في حديث ساذج لن يجلب إلا الوجع والقهر، كانت تحدق بعينيها في الطريق دون أن ترمش بهما خوفًا من سقوط دموعها التي كانت على حافة الأنتظار وقابلة للأندفاع. وقف أمام باب بيتها ونزل من السيارة ليفتح لها الباب الذي سبقته وفتحته بنفسها. نظرت إليه نظرة طويلة وهي تمسك بباب السيارة ثم أغلقته قائلة:- أتمنى أن تقف أمام المرآة وتعيد كل كلامك مرة أخرى، أعتقد أنك أحق به مني… تحركت خطوتان للأمام ثم عادت إليه مرة أخرى وعانقته برفق وهمست في أذنه قائلة:- – لا تلاحق النجوم والقمر بين يديك. وقف في مكانه متجمدًا ينظر إليها وهي تبتعد وتختفي وراء أشجار الحديقة. ثمة ألم في الهواء، أنفاسٍ طاعنة تغدر به بقوة، ريح تعوي حوله في الخواء، وحفيف موحش، لكن كان هناك شىء اكثر وحشة؛ هو الأيام القادمة.