ظلّت تخبئ دبلة خطوبتها طوال الرحلة .. لا تكف عن التهامس مع صديقتها نازك، ثم تضج ضاحكة. تسخر من موسيقاهم والكل يغني معهم في القطار .. إنزلقتْ في الزحام إلي جوارهم تعبث بمفاتيح جيتاره فيفسد اللحن، يزجرونها فتضحك .. لا تصدق أن هؤلاء من حصلوا علي جائزة الموسيقي للجامعة هذا العام .. إتهموها بعدم الفهم، لكنها صمتت مُنصتة إلي "أعطني الناي وغني .. " سرَحت عيناها اللوزيتان إلي بعيد مع فيروز، ثم طلبت الإعادة لتسرح مرة أخري. هدّهم الغناء والرقص والضحك فالسفر طويل .. نام معظمهم، استغربَت عندما أودع جيتاره حقيبته ثم بحِرص أخرج كتابا كبيراً قديماً .. اقتربتْ إلي جواره، الكتاب ملئ بالصور لجداريات فرعونية، رسومات وتصاوير وعليها تعليقات .. تسلل عصر ذلك اليوم إلي تلك الغرفة الضيقة بالمعبد القريب، يعرف طريقه المختصر إليها بعيداً عن المدخل الرئيسي . يعرف أن دليل الرحلة يتجاهلها، دخل من مدخلها الضيق الوحيد .. رفع رأسه مدققا في قرص الشمس يملأ سقفها المنخفض محتفظاً بلونه الذهبي بين زرقة السماء ومحاطاً بأذرعه الطويلة النحيلة تنتهي بأكف حانية تربت علي البشر مصورين في أحجام صغيرة، الرسومات متهالكة .. لكنها واضحة لمن يقف بعيداً أو يدقق في الطقوس بالقرب من الركن المقابل. قرأ عنها وعن الكتابات المنقوشة حول الرسومات والتصاوير.. أنفاسها الحارة لفحت خلف رقبته، ترقُب ما يدقق فيه .. التفتَ فتلاقت أعينهما .. بدت مبهورة، أمسك بيدها فالأرض غير مستوية ، استندت إليه .. خجل من تساؤلها عن تلك الصورة الكبيرة تتصدر الجدار الجانبي .. ابتسمت بغموض زاده سِحر الغرفة .. يدورون حول الجدران، بنعومة تلتصق به .. حتي لا تقع .. راح يهمس في اذنيها ما يعرفه عن الطقوس في هذه الرسومات والنقوش، تندهش وتختلط أنفاسهما .. تشير الي باقي الجدران .. تضحك، فقد قرر أن يقيس خصرها بخِصر الأميرة المصورة علي الجدار، محاطة بوصيفاتها. قال لها : "جمال الأميرة يُخضعهن، فللجمال شخصية .. أنتِ مثلا لكِ وصيفة معنا في الرحلة.. " ، تحملق فيه ثم تنطلق ضاحكة تقول له :"نازك .. زميلتي !!" .. راح يصف لها تشابهها مع الأميرة وكيف نسجوا هذا الكتان الرقيق، تحملق في عينيه باسمة تقول غامزة بعينها : " قصدك شفاف .." لم تصدق أنه لا يعرف باقي النقوش .. همست في أذنه : "أنت مكسوف .. الرسومات في الكتاب يا مكار .." ملأت ضحكتها الغرفة .. تلفتَ حوله .. بدا أن الاميرة وصاحباتها يتجاوبن مع ضحكتها، فقد اعرَضّت ابتساماتهن. مالت الشمس للغروب، زادت حُمرة برونز ذراعيها، عرق خفيف علي وجهها، تلتصق به خصلة سوداء من شعرها المُرسل، يزيحها عن عينيها. زادت لفحة باردة من تلاصقهما .. يزحف الظلام ، أمسك بكفها إلي باب الغرفة، يقول لها "يسألون عنا"، تلمع عيناها، تُصِّر علي مَعرِفة ما تبوح به باقي النقوش !! أشار لها لتخرج من البوابة القريبة .. هرعت اليها "وصيفتها" .. بدا أنها تنهرها وتتلفت حولها .. إختفي عن عينيها . لم تنس مقاطع قصيدة الحب الأزلية التي ترددت في حوار الصوت والضوء، تجاورا في برد تلك الليلة .. وظلا يرددانها طوال ايام الرحلة . ردداها الليلة بلا وعي وقد انسلت ثلاثون عاما، مصعوقا وجدها أمامه في مدخل القاعة .. فجأة راح يردد : "أتلهف لرؤياكِ مع عودتي من الحقل وغروب آتون عن الأفق .." .. ردّت عليه بضحكتها التي لم تتغير ، مجلجلة : "وانا أهرع إليك مادةً ذراعي بأكف راعينا آتون المبارك .." .. كادا أن يغوصا في حضن تلك الغرفة السحرية البعيدة هناك في الجنوب .. حاصرتهما الأعين في مدخل قاعة الحفل باندهاش !! استغرب زميله والد العروس هذا اللقاء الحار.. الذي لم يكتمل .. فقد ظهر في وقت مناسب، يحييه مُصطَحبه إلي ركن هادئ خافت الاضاءة بالقاعة، وعينيه مليئتين بالتساؤلات .. هرَعَتْ هي إلي حيث تقف أم العروس. يرقبه زميله بعينين دهشتين من هذا الارتباك والاحمرار المتصاعد إلي وجنتيه، وإبتسامة غريبة سعيدة .. لم يلحظها علي وجهه ابداً، وقد خرجا للمعاش معا، تركه ليستقبل باقي المدعوين .. تبحث عيناه عنها من ركنِه في القاعة، لم يأبه لعدم حضور باقي زملائهم بالمعاش .. لماذا أتي بها الزمن إلي هنا ؟ ألَمْ يمَلْ التلاعب به ..!! لمحها في الفستان بنصفه العلوي بلون الليمون .. ذراعاها البرونزيتان بلا عرق شفيف، إمتلأتا قليلاً .. تلمع في أصابعها ماسات دقيقة ، شعرَها بهذه الحِلكة .. هاجمته رائحة الليمون الطازج في الغرفة هناك، كامنة ولم تعد بعيدة وطعم العرق .. ففي العصرية التالية هناك، قالت له :"باقي جدار لم نقرأه .. " ، واشتعل غيظ صديقتها ، لم يعرف لماذا ..!! ربما لأنه كان يجلس بينهما علي العشاء .. شَغلهُ أنه لا يعرف شيئا عن رسومات ونقوش هذا الجدار، ضحكت وعيناها تبتسمان تهمس : "كلها محاولات .." . نقرات الأظافر علي كتفه يعرفها، التفت بسرعة تائهاً .. بريق عينيها يطوي تلك السنوات كأن لم تكن، جدار الغرفة خلفها، لوهلة بدت كأميرة برزت منه .. لا شعورياً أمسك بيمناها يقلبها .. بهتت ابتسامتها وهو يسألها : "أين الدبلة ..؟" سحبت يدها بلطف ، أحس بارتباكها .. عادت ابتسامتها مع بريق عينيها تهمس : "احجز لي المقعد بجوارك .. زي زمان .. وبلا نازك" . يضج قلبه بخفقات قديمة، تصور ألا يتحملها .. تواصلت الخفقات بينما تتبعها عيناه تتمايل علي كعبها العالي متجهة إلي أم العروس .. تتهامسان وأعينهما تجاهه .. تضحك لها ضحكة أربكتها. وجدها إلي جواره في موكب العروس .. تعابثت أصابعهما من بهو الفندق حتي منصة مقعدي العروسين .. خفقات قلبه تطغي علي ضجيج الدفوف .. تأخرا عنهم، عاتبها علي إخفاء دبلة خطوبتها طوال الرحلة .. سألها : "هل تخفينها هذه الليلة..؟" .. أخفت دمعة ستفسد الماكياج، ضغطت علي كفه هامسة "سنتحدث .."، راحت تسوي ذيل فستان العروس مع أمها .. عاد إلي مقعده بفكر تائه .. تلمحه يتابعها في القاعة، تقلب عيناه في ذاكرته .. ليلة الحفل الاخير للرحلة، بدت نازك هادئة لا تفارقها .. إختفت ضحكتها الصادحة، تجلس في وجوم .. تتجنب نظراته، لم يتحادثا أبداً منذ تلك الليلة .. لمح دبلة خطوبة في إصبع يدها اليمني بينما يضع حقيبتها علي الرف في القطار .. تجمد في مكانه، بدت عيناها زائغتاين .. تدخلت نازك بسرعة، جذبتها لتجلسها إلي جوارها، مددتا سيقانهما علي المقعد أمامهما دافعة رأسها لتلتفتا إلي النافذة .. تفرد بطانية قائلة : "الجو بارد والرحلة طويلة .." .. تجمدت التساؤلات. رحلة عودة كئيبة ، مليئة بالتساؤلات، وكان قد أعد لها أحاديث وكلمات .. لم يعرف حتي الآن لماذا اختفت صور كثيرة للرحلة، سأل زميلهم المُصوِر .. لم يجد إلا صورة واحدة تبدو فيهامن بعيد بين زميلاتها، وبيدها القبعة الخوص علي سطح قارب العبور الي وادي الملوك. استقر الحضور في القاعة واشتعلت حلقة الرقص .. تتلفت ثم تهرع إليه .. تزيح عشر سنوات للوراء مع كل خطوة إليه .. لن تستند هنا إلي ذراعه ليعبرا تل الرمال إلي مدخل الغرفة، لكنها تحتفظ بابتسامة اللقاء هناك، قام مسرعا ليجلسها علي المقعد إلي جواره .. يتطلع إليها بلهفة سنوات، يشرق وجهها بشمس آتون تسأله : " شعرَك اختفي ؟ والباقي أبيض" .. يبتسم، يشعر أنه يطير حولها .. يهمس لها : "لا تنفع معه الأصباغ .." عادت ضحكتها، تشير إلي شعرها .. عيناه لا تفارقانها، لم ينس أبداُ إندفاعه نحوها .. والصاعقة التي شلّت فكره صباح ذلك اليوم في القطار، فهي لم تعد تحضر الي الكلية بعد عودة الرحلة وحتي امتحان التخرج .. تلمحه نازك عندما يمر بقسمهم بالطابق العلوي .. تتجهم في لقاء بارد لا يتطرق اليها. ليالي ثقيلة مرَت وقد اختفت .. أطاح بالكتاب إلي رفٍ عالٍ بعيد . تلح بالسؤال عن أحواله، انتبه .. تلمح ما يدور في عينيه .. قال لها باقتضاب : "تزوج الأولاد، ورحلت زوجتي" .. زَمّت شفتيها، خفضت صوتها : "وزوجي أيضا .. الله يرحمهما، تزوج ابني ويعمل هناك حيث وُلد" . في صدفة غريبة قابلها وزوجها بينما كان وجنوده يستبدلون إطار عربة الجيش علي الطريق بالقرب من ضاحية خارج القاهرة .. كانا حديثي الزواج ، خرجا فجأة من بناية جديدة بالجوار، التقت أعينهما، وجَمَتْ لتخفي فرحة أطلت من أسْرِ حزنٍ عميق أدرَكهُ .. قضت عليها بتقديمهما للتعارف .. ثم سرحت بعينيها بعيدا في الأفق .. أفق آتون .. كانت الحرب قد إنتهت .. لا يعيرها زوجها إهتماماً، بجمودٍ راح ينصحه بالسعي للخروج من البلد .. مثلهما، وينظر في ساعته . تعود إلي مشاغباتها كما لو كانا لايزالا في القطار المسرع إلي الجنوب ، تسأله : "ها تعزف مزيكا للعروسة ؟ فيروز .." ، قال لها إن الحفلات الآن تسجيلات، تيك أواي .. راحا يدندنان "أعطني الناي وغني" تضحك من صوته الذي فقد موسيقيته . أوشك الحفل علي الانتهاء، قال لها مداعبا : "أقاموا أسوارا حول المعبد .. زرته عدة مرات".. سرحت عيناها .. تبادلا أرقام التليفونات، يتجهان لتحية العروسين .. قالت له بابتسامتها الآمرة : "أنا رجعت، رتب نفسك لرحلة نهاية الأسبوع .. وهات معاك الكتاب ..