دعنا نعترف بحقيقة أن قسمًا لا يستهان به ممن شاركوا في الحراك الثوري في مصر، طوال السنوات الثلاث الأخيرة، لديهم خيبة أمل بنسب متفاوتة، نتيجة إحساسهم بأن (الثورة) انحرفت عن المسار الذي تمنوه وحلموا به، وخرجوا من أجله، فرغم تغير الإدارات التي تعاقبت على الحكم منذ تخلى مبارك، فإن الملفات الرئيسية لم تفتح بعد: العدالة الاجتماعية وحرية التعبير ومحاربة الفساد وإصلاح التعليم والصحة ومكافحة الشغب والبلطجة وتنظيم المرور ومقاومة البطالة وإعادة هيكلة الشرطة.. إلخ، بل تم إغراق مصر في مشكلات تافهة ومصطنعة لإلهاء الناس عن مشكلاتهم الرئيسية. كما لا بد أن نعترف أن أكثر المتضررين من هذا الإخفاق الحكومي هم الشباب الذين لا يجدون فرص عمل مناسبة بعد تخرجهم من الجامعة، وأولئك الذين أثر التدهور الاقتصادي وانهيار قطاع السياحة على أوضاعهم المادية، حيث فقد معظمهم وظائفه، أو انخفض دخله إلى حد كبير. الحقيقة الثانية أن الدعاية الحكومية الفجة لدفع المواطنين إلى التصويت ب"نعم"- سواء بالملصقات التي أغرقت الشوارع، أو عبر البرامج الموجهة والأغاني الحماسية في القنوات التليفزيونية المملوكة للدولة- أشعرت كثيرين أن شيئًا لم يتغير في مصر، فمازلنا نعيش أجواء عهد مبارك الذي يهدر أموال الدولة لخدمة النظام، الأمر الذي يصيب الناس بالاكتئاب والقرف، ويدعوهم إلى العزوف عن المشاركة، خصوصًا أن جماعة الإخوان المسلمين أعلنت عدم مشاركتها، وبالتالي فإن التصويت سيكون في اتجاه واحد. ولا شك أن أكثر المتأثرين سلبيًّا بهذه الدعاية هم الشباب، الذين أحسوا أن مشاركتهم لن تغير المعادلة أبدًا. الحقيقة الثالثة أن عودة رجال الحزب الوطني إلى المشاركة في العمل السياسي منذ 30 يونيو 2013، وتحمسهم لتأييد الدستور الجديد انتقامًا من جماعة الإخوان التي- من وجهة نظرهم- كانت عاملاً فارقًا في إقصائهم عن الحكم في 2011، هذه العودة السافرة والفجة في بعض الحالات، جعلت قطاعًا من الشباب ينفر مما وصلنا إليه، ويبتعد عن المشهد حتى لا يظهر إلى جوار رجال مبارك في صورة واحدة، ولا شك أن معظم هؤلاء النافرين من الشباب أيضًا. السؤال إذن: إلى أي حد أثرت تلك الحقائق على نسبة مشاركة الشباب في الاستفتاء؟ للإجابة لا بد أن نسرد مجموعة من الملاحظات التي لا يمكن إغفالها، الأولى: أن نسبة المشاركة- حسب المعلومات الأولية المتوفرة وقت كتابة المقال- تتراوح حول 50% من عدد المقيدين في جداول الانتخاب- حوالي 53 مليون مواطن-، وهي نسبة غير مسبوقة بالفعل، فإذا ما عرفنا أن من 15 إلى 20% ممن لهم حق التصويت يقيمون خارج مصر- حوالي تسعة ملايين-، وأنهم لم يدلوا بأصواتهم نتيجة عدم تسجيل أسمائهم في السفارات المصرية بالخارج، وأن أتباع جماعة الإخوان- ومن يدور في فلكهم- قاطعوا عملية التصويت، فإن حوالي خمسة أفراد من بين كل ثمانية شاركوا في التصويت، وهي نسبة عالية، بحيث يصعب معها استنتاج عزوف الشباب عن المشاركة، خاصة أنهم يمثلون نسبة كبيرة من تعداد المصريين. الثانية: لقد أدليت بصوتي في نهاية اليوم الأول، وسط جموع من الناس الذين يعكسون شكل الشارع المصري: شباب وشيوخ، أغنياء وفقراء، متعلمون وغير متعلمين، وقد سادت روح إيجابية بينهم، بحيث يقدم الشباب كبار السن والمرضى ويؤثرونهم على أنفسهم، وينتظمون في طوابير طويلة دون تململ، ويتعاونون مع أفراد الجيش والشرطة المسئولين عن تأمين اللجان، ومع القاضي المشرف على الصندوق والعاملين معه، بشكل ذكرني بالأجواء التي كانت سائدة في ميدان التحرير أثناء الثمانية عشر يومًا التي أسقطت مبارك ونظام حكمه. والثالثة: أنه كلما بعدت عن العاصمة وتوغلت في القرى زادت نسبة مشاركة الشباب في الانتخابات والاستفتاءات، ذلك أنهم يعيشون لحظات استثنائية يحسون فيها بقيمتهم، وبالمشاركة في صنع الحدث، فنسبة المشاركة في القرى تكون أكبر كثيرًا منها في المدن، وفي المناطق الفقيرة أعلى من الأحياء الغنية، وتلك هي الأماكن التي اعتمدت عليها الجماعة في انتخابات الرئاسة، وهي التي صوتت لصالح مرشحها. إذن.. لا نستطيع أن نقول باطمئنان إن الشباب لم يشاركوا في الاستفتاء، كما لا نستطيع أن نغفل عزوف قطاع مهم منهم، خاصة في القاهرة والمدن الكبرى، للأسباب التي سقناها في بداية المقال، وهو ما يشكل خطورة في رأيي.. فبالرغم من أن نسبة العازفين ليست كبيرة من حيث العدد، إلا أنها مهمة من حيث نوعيتها، فأغلب هؤلاء من الشباب الفاعلين في الحراك الثوري، الذين ليسوا راضين عن أداء كل حكومات ما بعد يناير 2011، بما فيهم الحكومة الحالية التي جاءت بعد موجة 30 يونيو، فقد كان الأمل كبيرًا أن تستطيع هذه الحكومة تحقيق إنجاز ملموس في معالجة القضايا العاجلة والملحة، لكن سرعان ما أصاب هؤلاء الشباب خيبة أمل من أدائها البطيء، واعتمادها على المعالجات الأمنية دون الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تزيل أسباب المشكلة وتقضي عليها نهائيًّا. خطورة غضب ما يمكن أن نطلق عليهم "شباب الثورة"، أنهم أضحوا قوة معارضة تستطيع تحريك الشارع ضد الحكومة إذا توفرت الظروف، وأنهم بما يكتبون على صفحاتهم وما يقولون في وسائل الإعلام، يخصمون من رصيد الفريق السيسي لدى الشارع المصري، فمما لا شك فيه أن شعبيته الآن ليست كما كانت يوم 3 يوليو، وقت أن ساند الشعب ضد نظام حكم الإخوان وأعلن خارطة الطريق، فالأداء السيئ والمتراخي للحكومة محسوب عليه في النهاية، ذلك أن المصريين لا يصدقون أنه مجرد وزير في الحكومة، ويعتقدون أنه قادر على الإصلاح إن أراد، خصوصًا أنه يمتلك ظهيرًا شعبيًّا كاسحًا يحمي قراراته، وكثيرون يقارنون بينه وبين جمال عبد الناصر، الرجل الذي أنجز الملفات الصعبة في ثلاثة أشهر فقط، وبرهن على انحيازه للفقراء والمطحونين، بإصدار قانون تحديد الملكية الزراعية، الذي عرف باسم قانون الإصلاح الزراعي، وقوانين العمل التي حددت الحد الأدنى للأجور والتأمينات الاجتماعية. لا شك أن إقرار الدستور بنسبة عالية، ستزيد حسب المؤشرات الأولية عن 95%، في ظل مشاركة كبيرة من فئات الشعب كافة، خطوة مهمة على طريق الاستقرار، وخلق شرعية جديدة تنهي شرعية جماعة الإخوان نهائيًّا.. لكن على الحكومة، وعلى الفريق السيسي نفسه، أن يتلقى رسالة "شباب الثورة"، ويتعامل معها بما يليق بمعناها، حفاظًا على مصر ومستقبلها.