ليس وحدها الذكريات هي التي تعوّضني عن غيابك يا شهرزاد، أشياؤك المتصلة بحبل سرّي ما بين قلبي وقلبك، يجتاز المسافات، فيتتبع القلب عطرك الأنثويّ، فيدلُّه الشوق على الشوق، فيشتعل الحنين قارسا ورزينا، هادئا وجريئا، مستكينا ومتكبرا، فقد جعلت النفس يا شهرزاد موئلا للمتناقضات. ما كنت أصدق قول الشعراء المجانين، الذي يبكون ويضحكون في وقت معا، ما كنت مصدقا مجنون ليلى الذي اتخذ ليلى قِبْلَتَهُ، فيمّم نحوها بوجهه، وشطح في صلاته فلا يدري أصلى أربعا أم ثماني تولهات تطحن أعصابه، كنت أقرأهم وأراهم مجانين وأغبياء وعشاق الخواء والخور والضعف، ولكنني عندما وقعت بما وقعوا فيه وذقت مرارة البؤس والشقاء وشظف الحرمان، عندها عذرت قلبي على تباريح الغرام وعلى طقوس الاشتياق التي جعلتْ قلبي هواء على ما قال أمثلُهم طريقةً يوما. لا شيء أفدح من العشق يا شهرزاد إلا أن تراه يضيع ويتسرب في شقوق الرمل ويَنْسِلُ دماءك ويسحب هدوءك، فيتركك في منزلة بين المنزلتين، متأرجحاً بين الخواء والسكون، بين الريح وشمط العاصفة، بين الأقدار وهبة الليل الفاتحة ألمَها وكأنها فمُ الغول، لتتحول الدقائق وحوشا تعاضدُ الأشباح التي تتراقص في عيونك، ولا تجعلك تستقرّ على شوك من باقي هدوء مُجتلَب من بقايا المستحيل!! ليس وحدها الذكريات، يا سيدة الذكريات، ما يجعل القلب مغسول أمطار الحزن؛ فالوقت ودقاته يُحاصر الوقت وساعاته، لأنك قد سكنت بكل دقيقة وثانية، ففي كل بارحةِ وقتٍ وسانحةٍ لك فيها ذكريات، فكيف ستخرجين وتغادرين قلبا تشبّع بدمائك؟ أو تعلمي بأنك قد جريْت في عروقه نبضاتٍ من اليقين حينما تبلّجت في روحه ذات مساءٍ، كأبهى جمال أنثوي يسحر الفكر الذي رآك كما أنت، لا شيء يستر جمالك إلا الجمال، ولا شيء يخفي عن القلب تكامل الجسد إلا ملامح جسد بارع مصفوف بعناية، لأنه صنعةُ فنان، وهبك ما وهبك لتحتلي بجيوش حسنه الرابضات على جفونك من عيون الغزال أعتى قلب فحطمته وأشعلت فيه نيران روما، لم يحظ برشفة من ريق شفتيك المتشبعتين عسلا مصفى، فتركتيه عطشا عمره كله!! لقد غادرت شهريار وهو ما زال يتآكل نارا، منتظرك كل مساء، يتوهج للحظات، ثم يعاود الخفوت، يراك عند العاشرة مساء، وإن لم تأت، ليراك تقولين له ما اعتدت قوله، لا يصدق الأخريات اللواتي فتحن أبواب الجحيم على قلبه لإغوائه، لا يصدق إلا فيض ياسمينة من طهر روحك كانت تغرد له كل ليلة بصوت كنار "أحبك يا حبيبي"!! حتى وإن لم تقلها كانت تصدح نيابة عنها أغانينا المشتركة تبوح عنا نسمعها وهي تسكب أغنيتها من أجلي وأجلك!! ليست وحدها ذكرياتك من يذكرني بك، بل روحك التي ما زالت تحتل كياني وتحتويني، فتفيض بعطرك وصورتك وحروفك في كل ما أراه، إن نظرت إلى الشجر تذكرت شيئا من ملامحك، وإن نظرت إلى القمر رأيتك فيه محاقا وبدرا، وإن تأملت السماء صافيةً رأيت قلبك أبيض رحبا، وإن رأيت ورود حدائق بيتي المتواضع، رأيتك تضحكين في وجنتيْ وردة حمراء زاهية بكبرياء تسخرين من جنوني ومرضي وامتقاع روحي في سراب الانتظار، وإن نظرت إلى ساعتي رأيتك فيها شامخة متحدية أن أستطيع نسيانك ما دمتَ حياً، لقد هزمتِ شهريار برقة بلا حدود وهدوء مسكون بعواصف الصمت الرهيب والنظرة العاتبة الجارحة. فكيف لي أن أعيش بعدك وقد كسرت فيّ كبرياء الرجولة، وجعلتني ظلا يتبع رحيق الحروف التي تحاول رسمك! فيا لله كم أنا مهوس ومريض بك مرضاً مزمناً لا شفاء منه حتى آخر قطرة من دماء روحي، ستظل نازفة تبكي لبعدك عني!!