كشفت المخابرات المصرية جاسوسا إسرائيليا يدعى إيلان تشايم، وقررت نيابة أمن الدولة طوارئ أمس الأحد 12 يونيو حبسه 15 يوما على ذمة التحقيقات، بعد أن وجهت له تهمة التجسس والإضرار بالأمن القومي للبلاد. وقبل ما لا يزيد عن أسبوعين، وتحديدا في يوم السبت 28 مايو الماضي، أحالت المخابرات المصرية إلى النيابة موظفا بالسفارة الإيرانية يدعى قاسم الحسيني بتهمة التخابر على مصر لصالح إيران. ولا شك أن ما خفي من جواسيس لهاتين الدولتين أكبر بالتأكيد. ففي مقابل الوفد الشعبي المصري الذي زار إيران للتحاور وتحسين العلاقات، نجد أن الإيرانيين بعقليتهم التآمرية لا ينفكون عن أساليبهم التخابرية والجاسوسية. وبعيدا عن التشكيك في قصة الجاسوس الإسرائيلي والقضية برمتها، فلا شك أن إسرائيل تجند جواسيس في مصر طول الوقت وبغض النظر عن نوع العلاقات مع مصر، ولا شك أيضا أن من مصلحة إسرائيل أن تنهار الدولة المصرية. وبوجه عام يثير الكشف عن الجاسوس الإيراني ثم الإسرائيلي عدة قضايا لا بد أن نعي لها ونتصرف على أساسها، دولة وشعبا. أول هذه القضايا هي أن إيران وإسرائيل هما العدوان الأولان للدول العربية، ومصر في القلب منها. فالعداء الإيراني للدول العربية وللعروبة لا يقف عند حد دول جوارها الخليجي الذي تعتبره إيران مناطق فراغ سياسي تسعى لملئه بنفوذها وحضورها السياسي والمذهبي، وإنما يستهدف مصر قبل الدول العربية الخليجية. فإيران تعرف يقينا أن مصر هي الظهير الإستراتيجي الدائم للدول العربية الخليجية في أية مواجهة مع إيران. ولذلك لا تفرّق إيران في محاولاتها لإختراق دول الخليج العربي واختراق مصر، إن لم تكن أحرص على اختراق مصر وإخضاعها. بل إنني لا أبالغ إن قلت أن إيران عدو أخطر على مصر والعرب من إسرائيل، فالأخيرة لا تستطيع أن تخترق المجتمعات العربية بالسهولة التي تستطيع بها إيران أن تخترقها. فكون إسرائيل عدو ظاهر وواضح للجميع يحمي الشعب العربي من اختراقها له، حتى وإن طبعّت بعض الدول العربية العلاقات معها. علاوة على أن إيران تحاول من خلال نشر المذهب الشيعي أن تضع أقداما لها في الدول العربية، وهي محاولات لم تنجو منها مصر البعيدة جغرافيا عن إيران والتي تعد تاريخيا بأزهرها وشعبها قلعة الإسلام السني. وسجل إيران القذر الطويل في مجال التدخل في الدول العربية والتلاعب بأمنها وأستقرارها أكبر من أن يسرده هذا المقال، أو حتى عشرات الكتب. فإيران منذ ثورتها الطائفية لم تحوّل ناظريها عن الدول العربية. فكانت دوما تحاول تصدير الثورة إلى الدول العربية، بالحرب تارة والجاسوسية والتمويل وإثارة الفتن تارة أخرى. ويكفي ما فعلته إيران وتفعله في العراق ولبنان من إشعال للطائفية والحرب الأهلية وتغليب للطائفة الشيعية على ما عداها من طوائف، وما تفعله في البحرين من محاولة لقلب نظام الحكم وتحويلها إلى محافظة إيرانية، وما تفعله في سوريا من دعم للنظام السوري الدموي، وما تحاول أن تفعله في السعودية وبقية الدول العربية وحتى دول الجوار العربي، يكفي لأن نحدد موقفنا منها، وأن نضعها في المكان الذي تستحقه: مكان العدو. ولا يمنعنا عن وضع إيران في موضعها الحقيقي تبريرات من قبيل أن الدول العربية الخليجية تقيم علاقات مع إيران. فإذا كانت هذه الدول العربية، بسبب ضعفها أمام إيران وقربها الجغرافي منها، تضطر لأن تنافق إيران، فإن مصر أقوى وأكبر من أن تنافق أحدا، أيا كان. ولا شك أن موقف مصر الواضح من إيران سيحدد مواقف الدول العربية الأخرى منها. وثاني هذه القضايا هو أن إسرائيل تحاول - وستحاول – أن تحيد بالثورة المصرية عن مسارها إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية قائمة على مبادئ المواطنة وسيادة الشعب وحكم القانون وتداول السلطة والانتخابات الحرة والنزيهة. فإسرائيل ستكون بالتأكيد المتضرر الأكبر من بناء ديمقراطية حقيقية في مصر. فالحاكم المستبد وحده – كما تبرهن حقبة مبارك المخلوع - يستطيع أن يركّع مصر ويخضّع مصالحها الاستراتيحية والقومية لمصالح إسرائيل. والشعب المصري الحر والقادر على اختيار قيادته ومحاسبتها يستطيع وحده أن يختار من يحافظ على مصالح مصر دولة وشعبا وأن يدافع عنها، ولو في مقابل إسرائيل وأمريكا. ولذلك لا بد أن ندرك أن إسرائيل ستحاول بكل السبل أن تجهض الثورة المصرية، لكي تعود مصر إقطاعية لمستبد يستمد شرعيته من أمريكا والغرب، ومن ورائهم إسرائيل، وليس من الشعب المصري الطامح إلى مصر قوية وعزيزة في مجابهة الجميع. ثالث هذه القضايا وأهمها هي ما كشفت عنه ردود الأفعال الشعبية، كما يتضح على مواقع الإنترنت والتفاعل الاجتماعي، من محاولة البعض للتقليل من شأن جرائم التخابر والجاسوسية، حيث ذهب البعض إلى أن التجسس والتخابر وارد حتى بين الدول الأصدقاء. وحتى إذا كان هذا المنطق مقبولا بفعل الواقع، بمعنى أن الواقع يقره ويصادق عليه، فإنه يكشف عن أعداء مصر الحقيقيين. فنحن مثلا لم نكتشف جواسيس لتركيا ولا للسعودية ولا لباكستان، وأزعم أننا لن نكتشف. فالتجسس والتخابر يكشف عن حقيقة نوايا الدول إزاء بعضها البعض، وعقليتها وأساليبها في التعامل، حتى وإن كانت تربطها علاقات دبلوماسية على أعلى مستوى. ولعل القضية الأهم التي يثيرها الكشف عن الجواسيس تتعلق بالقوة والعزة والحسم في الدفاع عن الأمن المصري. فالإفراج عن الإيراني المتهم بالتجسس وإبعاده عن مصر يعد - في رأيي – تفريطا في السيادة الوطنية والأمن القومي. فلا شك عندي أن الرجل كان جاسوسا يحاول نشر المذهب الشيعي وتجنيد أنصار لإيران في مصر، لتحويلها في النهاية إلى "بحرين" كبيرة. ولذلك أعتقد أن إبعاده كان حلا وسطا لجريمة لا يمكن لدولة ذات سيادة أن تقبل الحلول الوسط فيها. فلكي نشعر أن مصر الجديدة أحدثت قطيعة مع نظام مبارك الذي طالما فرط في سيادة مصر ليظل فقط في سدة الحكم وليورث السلطة إلى نجله، لا بد أن تتعامل مصر الجديدة مع قضايا التخابر بالقوة والحسم اللازمين. فإذا ثبت تورط أحد في أية أعمال ضد مصر، فلا بد أن يحاكم محاكمة عادلة بالمعايير الدولية وأن تنفذ عليه الأحكام، حتى وإن كان أمريكيا. فالإفراج عن الجواسيس يشجع هذه الدولة أو تلك على أن تعيد الكَرة، على طريقة اللمبي في فيلم "اللي بالي بالك" حينما قال للضابط الذي ينكّل به: "فكر يا باشا ربنا يوفقك". ومما لا يقل أهمية عما سبق أن الكشف عن الجاسوس الإسرائيلي وهو يحاول أن يوقِع بين الجيش والشعب وبين أطياف الشعب المصري لا يجب أن يستخدم كفزاعة للتخويف من التظاهر والاعتصام لاستكمال مسيرة بناء الدولة الديمقراطية. وربما لهذا السبب يشكك البعض في قصة الجاسوس الإسرائيلي برمتها. لكنني، وإن كنت لا أشكك في القصة، فإنني أحذر من أن تتخذ كذريعة لمنع التظاهر والاعتصام والإضرابات. ومما يطمئن في هذا الصدد أن الشعب المصري الواعي كان هو من كشف عن هذين الجاسوسين وأبلغ عنهما. وأخير، فإن مصر الديمقراطية الجديدة لا بد أن تعرف أعدائها وأصدقائها، وعلى رأس هؤلاء الأعداء إيران وإسرائيل، ولا بد قبل ذلك أن تحمي مصر الجديدة أمنها القومي وسيادتها الوطنية دون مراعاة لأية اعتبارات سوى سيادة القانون. دكتور مصطفى قاسم [email protected]