تذكرت مقولة الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان لتطبع ذات التساؤل في أذهاننا مثلما طبعته في ذهني حين قرأته : هل باتت صفحات الفيسبوك وتويتر ويوتيوب هي الرسالة التي يرسلها شباب العرب هذه الأيام للتعبير عن مواكبتهم للحداثة، وفي نفس الوقت رصد ما يمرون به من ظروف صعبة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى السياسية ؟ الاجابة كانت على نحو ما بدت لي وكأنها مجرد تهويمات في عالم افتراضي مالبث أن أحاله المصريون إلى واقع معاش .. وإلى حقيقة ، وإلى درس لمن أراد أن يتعلم فن الثورة السلمية البيضاء .. لم يكن أكثر المتفائلين ، يتوقع أن يُحدِث العالم الإفتراضي ، هذه الثورة المجيدة التي حدثت في مصر ، بهذا الشكل وعلى هذه الصورة ، وعلى هذا النحو المثير للدهشة والإعجاب ، وأن يقودها شباب كنا نظنهم أضعف " وأهيف " من أن يقوموا بإحداث كل هذا التغيير .. الذي كنا نتوقعه ، ونشعر به ، إلا أن أكثرنا تفاؤلا لم يكن ليحدّث نفسه بأنه سوف يشهد تحقيق هذا الأمل والحلم الذي انتظرناه طويلا .. أنا لن أتناول هنا الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان يعيشه المصريون على مدار ثلاثين عاما ،وهو الوضع الذي أفرز فسادا هائلا ، وطغيانا لم تشهده مصر منذ قرون ، وتغييبا في كل مناحي الحياة ، وانسحابا من المكانة التي احتلتها مصر على مدار التاريخ .. نأتي هنا إلى المفجر الذي فجر كل هذا الفوران الثوري ، والذي بدأ هادئا واثقا وواعيا باللحظة التاريخية التي تعيشها مصر منذ الثالث والعشرين من يناير ومابعدها ، والتي توجها غياب النظام السياسي من المشهد السياسي كله ، والذي كان أشبه بالزلازل ، وماتبعه من توابع هائلة حطمت المعبد على كل رموز هذا النظام العهد البائد الذي استهان بشعب ظل يحكمه على مدار ثلاثين عاما ، وكان يؤمل نفسه على أمل ان تتواصل مسيرة الحكم بالتوريث الكارثي إلى أربعين عاما أخرى وربما أكثر . هذا الشباب الذي فجر براكين ثورة الغضب في نفوس الشعب المصري ، الذي انتظر هذه اللحظة كي يشارك ويعبر عن مكنونات نفسه .. وجد أن الفرصة مواتية ، وكان يدرك في ذات الوقت أن الثمن سوف يكون باهظا .. وربما كان أكثر مما دفع فعلا .. وأنا كنت واحدا من هؤلاء الذين توقعوا " سيناريو " أسوأ مما حدث فأنا وبما توافر لدي من معلومات وأرقام ، ومعرفة بالشخوص التي كانت تحكم مصر ، توقعت هذه الثورة ، وتوقعت أن تسيل دماء أكثر ، ودمارا أكبر ، لأن النظام كان يراهن على هذه اللحظة التي لم يكن يتوقع ان يتشبث هذا الشباب الذي ظنوه سلبيا ومتواكلا وانهزاميا ، بها وبالثورة والمضي إلى أكثر مما يتوقعون .. البداية كانت من مواقع التواصل الاجتماعي ، وقد استفاد هؤلاء الشباب من الاحتجاجات الدورية التي كان يقوم بها عناصر من الشباب المصري بفئاته واطيافه والعمال والتي بلغت مايقرب من الفي احتجاج ، والتي بلغت حدود الانتحارحرقا أمام مؤسسسات الدولة السيادية دون أن يحرك هذا المشهد أو غيره ضمير أي مسؤول كبر أو صغر في مؤسسات النظام البائد الذي استهان بكل شئ ، فزور الانتخابات ، واستهان بارادة الشعب وعد ذلك نجاحا ، و" شطارة " وأغلبية مهدت له الطريق كي يحتكر ارادة شعب بلغ قوامه خمسة وثمانين مليونا من البشر ، عبر صناديق الانتخابات المزيفة .. والمعدة سلفا . والبداية كانت لعبة القط والفأر بين المتظاهرين والحكومة فى مصر لم تعد فقط مقتصرة على الشوارع، فعمد النظام المصرى غباء واستعلاء إلى تقليص خدمات الإنترنت والهواتف الخلوية لإدراكها أن صوت المتظاهرين يتواصل عبر المواقع الاجتماعية والشبكة العنكبوتية. إذن فقد بدأت ثورة الشباب الرقمية تسخر المواقع الاجتماعية للمشاركة والتعبير عن طموحاتهم والتى أصبحت تسمى ب«التحرير التكنولوجى»، ومع ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل فى المنطقة والتغير الديموجرافى الهائل فإن حجم أغلبية السكان أصبح تحت سن الخامسة والثلاثين عاما، وتحول ال «فيس بوك» إلى جهاز مخابرات الثورة ، وأصبحت شبكة الإنترنت، الشيطان الجديد وفزاعة الأنظمة القمعية، والتي كانت أول وسائل الاتصال التي تم منعها عن شباب مصر مع اندلاع ثورتهم ولا أحد كان يعلم متي يعود. بدأ كل شيء في جمعة الغضب من صفحات الإنترنت، ظهرت التحديثات الشخصية التي تنعي شهداء كنيسة القديسين، فكانت أول قطعة من قطع الدومينو التي ظلت تتساقط وصولا إلي جمعة الغضب . كانت العملية الإرهابية والتي كانت من صنع جهاز أمن الدولة كما يتردد هي ما شحن الناس باليأس والحزن ليأتي بعدها موت شاب مصري علي يد جهاز أمن الدولة ليشحن صدور الناس بالغضب، فتتبناه صفحة خالد سعيد والتي لم يبرد غضب أعضائها بعد، دعت الصفحة إلي الرد علي جبروت جهاز أمن الدولة يوم 25 يناير كنوع من الرمز للاعتراض علي أفعال الشرطة في يوم عيدها، وكان اطلاق كلمة ثورة المصريين علي يوم الثلاثاء تبدو علي قدر كبير من المبالغة.. كان عدد من يسخرون من مسألة الثورة يساوي عدد من يتحمسون لها تقريبا، إلا أن الأعداد بدأت في التغيير بشدة كلما اقترب يوم الثلاثاء.. أصبحت تحديثات موقع تويتر الموسومة باسم 25 يناير تصل إلي 500 تحديث في الدقيقة تقريبا مما جعلني شخصيا بحلول مساء يوم الاثنين اغير توقعاتي، بالنسبة لما سيحدث يوم الثلاثاء. وهنا تكمن عبقرية اختيار يوم 25 يناير وهو اليوم الذي تحتفل فيه الدولة بصمود رجال الشرطة في الاسماعيلية ضد الاحتلال البريطاني رغم الاختلال الواضح في القوى ، لكنه المصري الذي لا يهمه أي شئ دفاعا عن كرامته وعزة الوطن . فكان الاحتفال فرصة كي ينبه الشعب بقيادته الشابة عبر الفيس بوك والتظاهر ، مناسبة للتذكير بدور الشرطة في حماية الشعب وليس في حماية النظام وهو الدور الذي مارسته الشرطة على مدار ثلاثين عاما مضت والذي كان من نتيجته اهدار أمن المواطن بالتضاد مع أمن النخبة السياسية التي ظلت تحكم بقبضة الأمن زمام الامور في مصر . وجاء الثلاثاء لكي يقلب التوقعات رأسا علي عقب ويخرس كل من يدعي بان شباب الفيس بوك هو شباب افتراضي لا يستطيع التغيير علي أرض الواقع وكان الأمن صاحب النصيب الأكبر من المفاجأة ، وبدأ في التصرف بشكل عشوائي ومبالغ للغاية ، بدأت بحملة الاعتقالات الواسعة يوم الأربعاء، مما جعل الصفحات الافتراضية تغلي بغضب حقيقي ولدت من خلاله فكرة جمعة الغضب. ثم حاول الأمن حجب موقع الفيس بوك الأكثر انتشارا والأقل نشاطا من موقع تويتر في مصر، وهذا الذي يعده الخبراء خطأ استراتيجيا وأمنيا بامتياز استفاد منه شباب الثورة ، كي تتحول الثورة الافتراضية على صفحات الفيس بوك ، إلى ثورة حقيقية في الشارع المصري ، مما نتج عنه شحن أعداد كبيرة من الشباب ممن واجهوا صعوبة في الوصول للموقع برغم بدائية طرق الحجب ولكن تغلب معظم المستخدمين علي طرق الحجب دعا النظام لاتخاذ قرار حجب الانترنت بالكامل أول مرة في التاريخ إلا ان الشباب كانوا قد تناقلوا أخبار جمعة الغضب وطرق مكافحة الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. كانت الشبكة أشبه بجهازي المخابرات وأركان الحرب بالنسبة للمتظاهرين حيث يتم احكام التنظيم وتبادل الأخبار وتكوين وجهات النظر ، من خلاله فأدوات الشبكة تتميز بأقصي قدر من الديمقراطية والشفافية علي الإطلاق، حيث لا وجود للتزوير ولا توجد طريقة لمنع الرأي فمن حق كل مستخدم ان يدلي بتعليقه. والثورة التي اندلعت في مصر، والتي حملت أيامها أسماء مختلفة، مثل: جمعة الغضب، وجمعة الرحيل، وأسبوع الصمود، ويوم الشهيد، وغير ذلك من الأسماء والنعوت .. كانت خير شاهد على ما يمكن أن تمثله صفحات المواقع الاجتماعية من وسائل يستفيد منها الصغير قبل الكبير. فقد عمد شباب الثورة إلى التنادي بالخروج في مظاهرة أو اعتصام أو حتى تجمع شبابي مصغر، ولعل مصر كانت المثال الأفضل لذلك، فالكثير من المجموعات أعلمت المشتركين فيها بضرورة الخروج يوم الخامس والعشرين من يناير ، للتعبير عن رفضهم لاستمرار الوضع في مصر كما عهده الشعب منذ نحو ثلاثين عاما. كما أن حركات مثل حركة السادس من أبريل بدأت عبر فيسبوك التي أسسها الشابان أحمد ماهر وأحمد صلاح، لمساندة العمال في المحلة الكبرى، وهناك أيضا صفحات حملت أسماء بعض المصريين الذين سقطوا ضحايا للنظام الحالي، كصفحة "كلنا خالد سعيد" الذي تم تعذيبه على يد اثنين من رجال الشرطة، وتوفي على إثر ذلك ، وهي الصفحة التي أنشأها وسهر عليها وائل غنيم . وقد عرفت هذه المجموعة بنشاطها الكبير في التعريف بما يدور في كواليس الأمور داخل أجهزة النظام المصري، كنشر مقاطع فيديو لعمليات التعذيب، أو مظاهرات تنادي بمطالب الشباب وغير ذلك، فقد استطاعت هذه المجموعة حتى اليوم جمع قرابة النصف مليون صديق لها. كما لمع نجم تويتر خلال المظاهرات الأخيرة في مصر، فقد انقسمت أنواع المشاركات على تويتر إلى قسمين: إخبارية، ومشاركات داعمة. فالإخبارية غطت الأخبار التي ترد من الداخل المصري، حتى وإن كانت الإنترنت مقطوعة لبعض الوقت، خصوصا وأن مؤسسات عالمية مثل غوغل أطلقت خدمة اتصال هاتفي يتم تحويل رسائلها إلى رسائل تويتر ، أما المعنوية، والتي كانت بكميات كبيرة، فقد وردت من أنحاء مختلفة من العالم، لمساندة المصريين في مطالبهم وصمودهم. وإذا كان النسيان هو الغالب بين بني البشر ، فلن ينسى أي متابع لأحداث مصر السيارة الدبلوماسية التي انطلقت بسرعة هائلة في أحد الشوارع والتي قامت بدهس المتظاهرين من دون أن تأبه لحياتهم أو وجودهم. هذا الفيديو وغيره نشره موقع يوتيوب، الذي ساهم في إيصال الصورة الحقيقية لبعض مما يجري في الساحة المصرية، وهو أمر يتخطى حاجز التغطية الإخبارية الرسمية والمستقلة لوسائل الإعلام بشكل عام. فقد كان ال " يوتيوب " منصة لإعادة بث برامج نشرت على القنوات الفضائية الرسمية والمستقلة حول الأحداث في مصر، فمن فاتته حلقة من برنامج معين على أي شاشة ، يمكنه متابعة ذلك عبر يوتيوب. فقد كانت الرسالة واحدة، برغم تعدد وتنوع المنابر التي استخدمها شباب الفيس بوك وهي الكشف عن الوجه الحقيقي للنظام ، التي يراه الكثيرون مستبدا بحق الشعب المصري، المصممين على مواجهته ، حتى وإن كان ذلك عبر ثورة افتراضية. فقد استخدم المتظاهرون كافة الوسائل للاتصال حتى الكتابة على الجدران حين خرج المصريون في احتجاجات حاشدة في شتى أنحاء البلاد ليثبتوا أنهم في صورة غير تلك التي كونها البعض عنهم سواء كان أهاليهم انفسهم أو النظام واركانه كانت خاطئة فقد استطاعت جماعات الشباب ومن ناصرهم من افراد الشعب المصري من تنظيم هذه التظاهرات والإعداد لها عن طريق موقع "فيسبوك". وجاء يوم الثامن والعشرين من يناير ليشهد خروج الملايين في تظاهرات ليحكموا سيطرتهم على شوارع العاصمة وبعض المدن الأخرى فيما أطلقوا عليه " جمعة الغضب " وفشلت خطط الحكومة المصرية بحجب الانترنت والاتصالات في وقف اتصال المتظاهرين ببعضهم البعض. وحاولت الحكومة المصرية قطع وسائل الاتصال وخدمات الانترنت لمنع التظاهرات لكنها هذه الخطوة أفادت الثوار فائدة عظيمة . ويظل يوم الثامن والعشرين من يناير نقطة هامة وفاصلة لأنها شهدت توثيق العلاقات بين وسائل الإعلام سواء التقليدية أو الحديثة وبين تحرك الجماهير من أجل التغيير في مصر . لقد كان من الواضح أن المتظاهرين في مصر استخدموا كافة الوسائل المتاحة للاتصال ببعضهم البعض وتبادل الرسائل حتى على أكواب الشاي وعلى الحوائط إضافة إلى القنوات الفضائية التي أبلت بلاء حسنا والتي نشرت كاميراتها في كل مكان. كما تمكن الجيل الحالي ، من أن تصبح شبكة الانترنت مركزهم المعلوماتي ، ومنصة اطلاق الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الاليكترونية . حيث ساهم الانترنت في لعب دور مهم لأن الناشطين تمكنوا من مناقشة أفكارهم واتخاذ القرارات دون الحاجة إلى عقد اجتماعات تمنعها الشرطة بسهولة . مثلما سجل من خلاله المتظاهرون مقاطع وصورا للتظاهرات تم بثها عبر الفضائيات . ووفقا لأحدث الإحصاءات فقد وصل عدد مستخدمي الهواتف المحمولة إلى 80 بالمائة من الشعب المصري وهو ما سهل تسجيل المصادمات وانتهاكات رجال الأمن ضد المتظاهرين وبثها عبر القنوات الفضائية لتتابعها الجماهير كلها. وعلى الرغم من ان اشعب المصري هو من قام بثورة التغيير ، إلا أن الواقع يقول أن شباب الفيس بوك تمكن يما يملكه من ارادة وعلم واصرار على اشعال فتيل ثورة يبدو أنها لن تهدأ جذوتها الان على الاقل في الوقت القريب .