بالأمس خرج علينا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين منددا بأعمال العنف التي يقترفها النظام السوري بحق مواطنيه ومطالبا إياه بالاستماع إلى صوت العقل وتحقيق مطالب شعبه والاتعاظ بما حدث في تونس ومصر. وليس هذا الموقف الأول للاتحاد وعلمائه، حيث سبق أن تبنى علماؤه صراحة مطالب الثوار في مصر وليبيا، بعد أن نجحت ثورة الشعب في تونس، وبعد أن تأكدت قدرة الشعوب على تغيير النظم. فوجدنا الدكتور القرضاوي يقف علنا في صف الثورة المصرية، ثم يصلي بالثوار في ميدان التحرير بعد سقوط النظام، ثم يفتي بجواز قتل القذافي. واليوم الثلاثاء 19 أبريل ألقى شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب بيانا ندد فيه بأعمال العنف والقتل في حق المتظاهرين في سوريا واليمن -وليبيا وبالطبع- ويطالب النظم في هذه الدول بأن ترفع المصلحة العامة ومصلحة الشعب والدولة فوق المصالح الشخصية، وهي مطالبة صريحة بالتنحي عن السلطة. ربما جاء البيان الأخير من شيخ الأزهر الشريف من باب منافسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على القيادة الدينية للعالم الإسلامي. لكن سواء أكان هذا التصريح ناتجا عن التنافس مع الاتحاد أم لا، فإنه، ومن قبله موقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ينبئان عن تحول في موقف المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية أو المعتمَدة من الديمقراطية. والصفة "رسمية" أو "معتمَدة" نابعة من كون هذا القطاع من رجال الدين المسلمين يمثلون المؤسسة الدينية الرسمية في بلده، كما هي الحال مع الأزهر الشريف، أو التيار الديني المهيمن على المستوى الدولي، كما هي الحال مع الاتحاد العالمي، وكذلك تمييزا له عن التيارات غير الرسمية سواء الحركية أو السلفية. فها نحن أمام رجال دين يقودون مؤسسات رسمية يؤيدون مطالب الشعوب بالحرية، ويطالبون النظم بإفساح المجال للتعبير السلمي والامتناع عن ممارسة العنف ضد الشعوب، بل ويطالبون النظم بالرحيل لبناء نظم سياسية جديدة تلبي تطلعات الشعوب. وها هي المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية تُغيِّب فقه الفتة والخروج على الحاكم، الذي طالما رفعه البعض تبريرا لقعود الشعوب الإسلامية، والعربية منها بالطبع، عن الثورة على النظم الظالمة المستبدة. فالتظاهر والخروج على الحاكم أصبح، في رأي المؤسسة الدينية الرسمية، حقا للشعب، بل وواجب، إذا استبد الحاكم وجار، وأصبح الحاكم هو المُطالَب بالاستماع إلى صوت شعبه والانصياع له. لا شك أن ذلك يمثل تطورا كبيرا في الخطاب الديني الرسمي في الإسلام السُني، لكنه على الأرجح ليس تحولا كما وصفته في البداية. فأكاد أزعم بأن المؤسسة الدينية الرسمية في مصر لم تكن تعادي الديمقراطية يوما، على الأقل منذ أن تطور الأزهر بداية من الأمام محمد عبده. وكون هذه المؤسسة لم تصرح بتبنيها القاطع للديمقراطية وضرورة الديمقراطية للمجتمع فيما قبل ثورة 25 يناير كان ناتجا فحسب عن إيثار السلامة وتجنب الصدام مع النظام الاستبدادي السابق. لكن ما أن أزيح القهر والخوف، أظهرت هذه المؤسسة ميولها الديمقراطية، كما حدث مع مؤسسات وشخصيات أخرى. المهم أننا أمام مؤسسة دينية إسلامية رسمية تتبنى الديمقراطية وترى فيها علاجا للمظالم والآثام التي تضج بها المجتمعات، سواء أكان ذلك تحولا في موقفها، أم إظهارا فحسب لموقف كانت تتجنب التعبير عنه فيما سبق. ويعد ذلك بالطبع ضمانة مهمة للتحول الديمقراطي في دولنا. لكن في مقابل المؤسسة الدينية الرسمية، توجد روافد دينية أخرى لا يزال موقفها معاديا أو ملتبسا من الديمقراطية. فهناك السلفيون الذين كانوا يرفضون التظاهر والاحتجاج باعتبارها ممارسات غير إسلامية ويُكرِّهون من الخروج على الحاكم باعتباره فتنة، ونفس هؤلاء استفادوا من هامش الحرية الذي أتاحته الديمقراطية الوليدة لرفع دعاواى غير ديمقراطية، تتعلق بعمل المرأة وخروجها إلى الشارع وسفورها والعلاقة بالأقباط، وغير ذلك. وهناك الإسلاميون الحركيون الذين يعمل رافد منهم بالسياسة وناضل من أجل الديمقراطية، مثل الإخوان المسلمين، بينما ترفض روافد أخرى منه كل مظاهر الحداثة الغربية، بما فيها الديمقراطية، وتمارس العنف من أجل ذلك. والرهان هو أن تؤدي ممارسة الديمقراطية إلى جذب تلك الروافد السلفية والمعادية للحداثة والديمقراطية إلى رحابها. فالديمقراطية –كثقافة- لا تتأتى إلا بالممارسة والمران ومعايشة نتائجها الطيبة على الفرد والمجتمع.