سُئلت في مقابلة هاتفية في حلقة على قناة الشبكة الإخبارية العربية ANN بالأمس حول الدور العربي، سواء كدول فردية أو عبر جامعة الدول العربية، المطلوب في الأحداث الجارية في ليبيا، وكان الاتجاه العام للبرنامج هو التنديد بالغياب العربي عن الأحداث، وما يتضمنه ذلك من مطالبة بدور أكبر للدول العربية والجامعة في حسم الأمور في ليبيا لصالح الثوار. لكنني عوضا عن التنديد بالغياب العربي أكدت على ضرورة ألا يُسمَح بالتدخل الأجنبي، عربيا كان أو دوليا، في الأحداث في ليبيا، وأن الشعب الليبي يجب أن ينال حريته بيده، كما حدث في حالة تونس ومصر السابقتين. أعلم أننا في ليبيا أمام وضع مختلف عن تونس ومصر. يكمن الاختلاف في شخصية العقيد المعتوه الذي لا يتورع عن إبادة شعبه من أجل البقاء في السلطة ولا يتورع – كما أكد نجله سيف الإسلام – عن إدخال ليبيا في حرب أهلية. ويكمن كذلك في بنية الجيش الليبي الذي أضعفه العقيد "قائد الثورة" وقطّع أوصاله، حتى صار كتائب منفصلة لا تجمع بينها قيادة هرمية واحدة، تستطيع حين أن تقرر أن تنقلب على العقيد وتطيح به من السلطة. أدت عقلية العقيد المخبول إلى استخدام مفرط للقوة، بلغ حد استخدام الطيران والأسلحة الثقيلة لإخماد ثورة شعبه، وأدت بنية الجيش إلى غياب إجراء من النوع الذي شهدناه في تونس ومصر: أمر من الجيش لرأس النظام بالرحيل والتنحي عن السلطة. لكن في نفس هذه الاختلافات تكمن قوة الشعب الليبي وثواره. فجنون العقيد واستخدامه للقوة المفرطة أفقده الشرعية تماما سواء من داخل موظفي دولته في الداخل والخارج أو من جانب المجتمع الدولي الذي أسقط عنه الشرعية وجمد أمواله ويتشاور في اتخاذ إجراء عسكري ضد نظامه. وبنية الجيش مقطع الأوصال، في الوقت الذي حرم الشعب الليبي من جيش واحد يأمر القذافي بالرحيل، ساعد في حدوث انشقاقات واسعة بين كتائب الجيش، حيث رأينا كتائب مسئولة عن مناطق كاملة تنشق عن القذافي وتنحاز إلى الشعب وتضع إمكاناتها في خدمة ثورته. وبالفعل حقق الثوار منذ الأيام الأولى للثورة انتصارات كاسحة دون سلاح، حيث خرج شرق ليبيا كاملا عن سيطرة العقيد، وكذلك غرب ليبيا بمنطقته الجبلية، ولم يعد تحت سيطرة القذافي إلا مدينة سرت وسبها وأجزاء من طرابلس العاصمة. واليوم السبت 5 مارس، وفي الأسبوع الثالث للثورة، لا يزال الثوار يحققون تقدما كبيرا، ولا تزال الانشقاقات تحدث داخل تحالف القذافي القبَلي والأمني، حيث تتخلى عنه القبائل وتنشق عنه فصائل وقيادات من كتائبه الأمنية الوثيقة. واليوم أيضا يتقدم الثوار إلى مدينة سرت، مسقط رأس القذافي وموطن قبيلته، بينما أعلنت قيادات شعبية من المدينة ترحيبها بقدوم الثوار وأنهم سينضمون إليهم بمجرد أن يتحرروا من القهر والقمع الذي تمارسه كتائب القذافي الأمنية. لذلك كان رأيي في البرنامج التليفزيوني أن الشعب الليبي، رغم اختلاف الوضع على نحو ما أسلفت عن حالة تونس ومصر، قادر على إزاحة العقيد مهما تمادى في جنونه وغيه. لكن فضلا عن الإيمان بقدرة الشعب الليبي على إزاحة القذافي بالقوة، ثمة خطر على ثورة الشعب الليبي ومطالبها وعلى الثورة العربية في محطاتها التالية في حال حدوث أي تدخل خارجي، حتى لو كان عربيا. أعلم أننا في عجلة من أمرنا، ونود أن نرى الأمور في ليبيا قد حسمت لصالح الثورة الأمس وليس اليوم، ليس فقط من أجل الشعب الليبي، وإنما أيضا من أجل الشعوب العربية التي تنتظر دورها في الثورة على الاستبداد الوطني والهيمنة الخارجية. فالشعوب العربية، على ما يبدو، ينتظر واحدها إلى أن ينتهي الشعب السابق في الثورة من الإجهاز على طاغيته لكي يصعّد الشعب التالي ثورته ليخلع طاغيته هو الآخر. وكأن الثوار في اليمن والعراق والأردن ولبنان والبحرين يمارسون التظاهر، لكنهم لا يصعّدون فعلهم الاحتجاجي إلى الذروة التي تطيح بالنظام ورأسه إلا بعد أن ينتهي الشعب السابق في تحقيق ذلك. وأعتقد أن التدخل العسكري الخارجي، حتى لو كان عربيا، سيضر بثورة الشعب الليبي والشعوب العربية الأخرى التي تنتظر محطاتها على طريق قطار الثورة العربية. فالتدخل العسكري من شأنه أن يبدد الطابع الشعبي والسلمي والداخلي والتحرري للثورة. ولا ينبغي أن ننسى أن تلك السمات هي التي أكسبت ثورة التوانسة والمصريين احترام العالم وشجعت العرب الآخرين على السيّر على دربهم. واستخدام القذافي للأسحلة الثقيلة وانحياز كتائب الجيش إلى الشعب الثائر لا يفقد ثورة الشعب الليبي تلك السمات التي تذكر شعوب العالم بالثورات التحررية. فهو، على كل، عنف ضئيل من الثوار ردا على عنف مفرط ومجنون من جانب النظام. وعلاوة على ضرورة الحفاظ على الطابع الشعبي التحرري للثورة الليبية – والثورة العربية في محطاتها التالية – فإن مشاركة أي طرف خارجي في الإطاحة بالقذافي سيضر بمآلات ثورة الشعب الليبي ونتائجها. فأنا لا أتصور أن تساعد الولاياتالمتحدة والغرب في الإطاحة بالقذافي، سواء بحظر الطيران أو القصف الجوي لمقار تواجد القذافي ومقار كتائبه الأمنية، ثم تترك الإخوة الليبيين ليقرروا شكل دولتهم الوليدة ونظامهم السياسي الجديد، الذي نأمل أن يأتي ديمقراطيا يعبر عن آمال وطموحات كل أبناء الشعب الليبي. فمما لا شك فيه أن ما سيساعد الليبيين في الإطاحة بالقذافي سيجلس على طاولة المنتصرين، رغم أنف الجميع، ليفرض رؤيته للدولة الجديدة وتوجهاتها. وبذلك يتخلص الشعب الليبي من طاغية ليجد نفسه تحت رحمة هيمنة أجنبية لن تتورع عن تنصيب طاغية جديد، ولو بآليات ديمقراطية، لكي يضمنوا أن تستمر ليبيا على نهج الطاغية السابق في سياساتها الخارجية التي تخدم مصالحهم. وحتى التدخل العربي غير مأمون العواقب. فلا يجب أن ننسى أن الدول العربية كلها نظم دكتاتورية، وأن جامعة الدول العربية نفسها ليست أكثر من ناد للمستبدين العرب. فالثورة في تونس ومصر لم تصل بعد مرحلة بناء الدولة الديمقراطية. ولذلك فإنني لا آمن على ثورة الشعب الليبي أن يتدخل هؤلاء الطواغيت في ثورتهم، لأن تدخلهم لن يكون في صالح الديمقراطية. فهؤلاء يخافون من نجاح الثورة الليبية أكثر من القذافي نفسه، ومنهم من يقدم يد العون للقذافي للقضاء على ثورة شعبه، حتى لا تنتقل حمى الثورة، بعد أن تنجح، إلى دولهم. ولذلك فإن بقاء الدول العربية وجامعتهم خارج الصراع في ليبيا يصب في مصلحة الشعب والثورة وليس العكس. في بداية الثورة في ليبيا راودت نفسي الرغبة في أن يتدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصري عسكريا لصالح الشعب الليبي، سواء بقصف منطقة باب العزيزية من الجو أو البحر. لكنني أفقت على حقيقة انشغال المجلس حتى الذقن في الحالة الداخلية في مصر، وعلى حقيقة أن مبارك في أثناء تقزيمه لمصر ودورها، دأب على إضعاف قدرات الجيش المصري. فأنا لا أظن أن الجيش المصري يستطيع تقنيا أن يفرض حظر طيران فوق الأراضي الليبية، ولا يستطيع أن يحسم الأمر سريعا بالقصف من الجو أو الأرض أو البحر. ولذلك أعتقد أن الحديث عن دور عسكري لمصر في ليبيا يمكن أن يجرنا إلى وضعية تشبه تلك التي عاشها الجيش المصري في اليمن في ستينات القرن العشرين، حيث ينجر الجيش إلى حرب يعتقد أنها سهلة وقصيرة، ليجد نفسه أمام أطراف عديدة داخلية وخارجية أعيد اصطفافها ضده. إن الشعب الليبي ليس أقل الشعب التونسي والمصري إيمانا بالحرية وتطلعا إليها وبذلا من أجلها. وقد حقق نجاحات مبهرة حتى الآن، وسيحسم الصراع في غضون أيام قليلة. لذلك لا حاجة إلى تبديد الطابع الشعبي التحرري الداخلي للثورة بجعلها صراع سياسي متعدد الأطراف. علما بأن الحفاظ على هذا الطابع للثورة هو أساس النجاح للثورة العربية التحررية في محطاتها التالية. والأمل معقود على الكتائب العسكرية التي انضمت إلى صف الثورة والسلاح الذي استولى عليه الشعب من مخازن القذافي في حسم الصراع. فالكتائب والقيادات العسكرية بعد أن وحدت صفوفها وجندت المتطوعين من الثوار ستكون قادرة على الحسم السريع والإطاحة بالعقيد المعتوه.