الجنرال رشيد عمار, رئيس أركان الجيش البري التونسي, دخل عقول وأدهان الشعب التونسي, ورسخ اسمه وأصبح سيد الموقف في تونس ليس بجبروته لكن بعزته وشهامته, يوم خير بين قتل ابناء شعبه وبين أن يقال ويهان. اختار الجنرال الشهم أن يقال, حفاظا على دماء الشعب التونسي. لم يخرج الجنرال اية خرجة إعلامية ولزم الحياد, لدرجة اصبح الجنود يحمون الشعب من جبروت رجال الأمن التونسي, أول الأمر. العديد من رجال الأمن التونسي ساروا بدورهم سير الجنرال وجنوده, وتعاطفوا مع الشعب وساندوه في محنته. موقف الجنرال رشيد عمار اضر بمصالح العديد من الانتهازيين المستفيدين من نظام الطاغية زين العابدين, ونتج عن موقفه أن زج بالعديد منهم في السجن, وفرضت الإقامة الجبرية على آخرين. المعلوم أن أي شجرة ترى شامخة لا بد أن لها جدور كثيرة هي من ساعدت على شموخها. كذلك الرجال والأنظمة, عندما يرى نظام شامخ أو رجل شامخ, فمعلوم أنه لم يبلغ لتلك الدرجة إلا بعد أن غرس في محيطه ودولته العديد من الجدور التي تسنده وتمده بالمعلومات وتخدمه. لذلك فإن تلك الجدور الكثيرة التي قطعت شجرتها أو تكاد, لا بد تكون متعددة لدرجة يصعب اجتتاتها, ومن الممكن جدا أن تهلك الشجرة التي يراد غرسها مكان شجرتها المقطوعة. المراد من هذا هو أن اركان النظام السابق, مدركون جيدا أنهم إنما هزموا بفعل الموقف الشهم للجنرال رشيد عمار. الجنرال وقف موقف الحياد والوسطية, تاركا أمر الشعب لنفسه لمدة تتجاوز العشرة ايام, لكنه تدخل بعد الضغط عليه وتهديده بمصير سيء لدولته تونس الخضراء. وجد نفسه مجبرا على الظهور واتخاذ موقف لن يكون بين المنزلتين, بل لابد له أن يميل لجهة معينة. الجنرال قيل له أنه إن لم يتدخل وقواته فإن الإسلاميين سيسيطرون على النظام وبالتالي يغيرون الدستور, وتصبح تونس دولة إسلامية أو قد تصل لما وصلت إليه الجزائر بداية التسعينيات. الجنرال فقد أول الأمر جميع اركان النظام السابق, ونال غضبهم ونقمتهم وأقلهم شأنا يتمنى لو يقتله انتقاما لفقدان اسياده الذين كان يعتاش على موائدهم, ولو من فتات وبقايا طعامهم. وهاهو الجنرال يسير في مسار فقدان حب الشعب الذي سانده أول الأمر وأصبح يهدده ويتوعده, ليخرج بذلك الجنرال من المواجهة صفر اليدين. لا رجال دولة يتقون به ولا شعب يحبه ومستعد لحمايته. أورد المؤرخ محمد المختار السوسي, الذي أرخ لجنوب المغرب, واقعة أقرب ما تكون لواقعة الجنرال. إذ خرج باشا تارودانت وهو ذلك الزمان كان في مقام الوالي حاكم الجنوب المغربي, خرج لملاقاة تورة ما سمي "بوحمارة" وثار على الباشا في مركز أحكامه بتارودانت العديد من الأعيان وحركوا اغلب سكان سوس, حتى حاصر السكان قصر الباشا وهددوا جميع أهله ومنهم ولده الذي ناب عنه في الحكم, هددوهم بالقتل والفناء. اضطر ولد الباشا إلى أن يدعوا قادة بعض قبائل سوس, وأكرمهم بالعطايا مقابل أن يردوا عنه غضب السكان, وافق القادة وتوفقوا بالفعل في المهمة. حال رجوع الباشا قدم عليه أحد القادة وهو يلبس جلباب الباشا الذي اهداه له ولده, ظنا من القائد أن الباشا سيكرمه غاية الإكرام, عرفانا منه بجهده في صد ثورة السكان. الباشا فهم الموضوع فهما آخر. غضب عن القائد وعاتبه وهدده وتوعده, وكان بصحبة القائد طفل صغير هو ولده البكر. ادرك القائد أن الباشا قاتله لا محالة, وطلب منه أن لايقتله أمام ولده. رد الباشا لن يراك بالطبع, وأمر جنوده أن يدبحوا الطفل على ركبتي والده وبعده أتبعه بوالده القائد. كان حكم الباشا هو أن القائد الذي رد الجمهور هو نفسه من حرضهم, لأنه لا يقدر على إطفاء النار إلا مشعلها. علق محمد المختار السوسي على الواقعة قائلا, ربما أن القائد فعل نفس الفعلة مع أحد عباد الله المؤمنين, فعاقبه الله عز وجل بالمثل في الدنيا قبل الآخرة. الحكمة التي تستفاذ من هذه الواقعة هي أنك ايها الجنرال في خطر داهم, لأنك لم تحل دون انهيار الحاكم وكل حاشيته ولم توفر لهم الحماية وأنت قادر على ذلك, والدليل هو أنك سرت تهدد وتتوعد جميع الشعب التونسي إن لم يلزم كل دراه. إن عصاك الشعب التونسي وأرغمك على قتله بالرصاص الحي, فقد خسرت نصف خسارة, وإن أطاعك وركن واستجاب, فقد حكمت على نفسك بالموت يا جنرال. لأنك مؤكد اصبحت الخطر المهدد لكل من سيحكم تونس, ولن يغمض له جفن ما دمت لم توارى التراب. لذا أنصحك نصيحة هي أن تنقض على حكم تونس وتحكمها بنفسك أو أن تعلن استقالتك وتدع أمر الجيش التونسي لمن تراه مخلصا لتونس محافظا على وحدتها وسلامتها, لينوب عنها في تهديد الشعب وينوب عنك لدى اركان الدولة ورجالها, وتنجو بجلدك وكل من يمت إليك بصلة قبل أن تظهر خسارتك وتعدم الملاد الآمن. قد تكون ايها الجنرال مدركا للعواقب ومستعدا لتحملها بالكلية, عندها لك الحق كامل الحق في ذلك, لكني ووفاء مني بشهامتك وعزتك وإباءك, وحفظك لدماء المسلمين الأبرياء, يلزمني ديني أن أقدم لك نصيحة ولو في العلن, لعلها تنفع العديد من رجال الدولة الصادقين المخلصين. حسن النية لا يفسر دائما في صالح المتصرف بها, والفائدة هي أن نطلب الله عز وجل أن يحفظنا وإياك الله, وجميع المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها, آمين يا رب العالمين.