يحتفل الملسمون كل عام فى شتى بقاع الأرض بليلة القدر فى العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم أيما إحتفال ؛ فها الشهر هو قد أذن بالرحيل ، فلم يبق منه إلا ساعات قلائل ، فيعمل كل منا على أن يحظى بما فيها من فضل وخير عميم ، فيصوم نهارها ويسهر ليلها متعبدا ذاكرا لله تعالى متضرعا عسى أن يصادف ليلة القدر ، فيطلب منه جل ذكره العفو والعافية ، وما شاء الله له أن يطلب ؛ وبخاصة أنها قد أخفيت فى الليالى العشر الأخيرة من رمضان . ولكن – العجب العجاب أن المسلمون رالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته للتشمير فى طلب ليلة القدر فى العشر الأواخر من رمضان ، بل وخص الليالى الوتر بالتنبيه ، يعنى 21 و23، و25 ، و27 ، و29 ، كما جاء فى السنة المطهرة إلا أنهم كادوا يحرروها فى ليلة السابع والعشرين دون غيرها ، فإذا انقضت فكأنما انقضى شهر رمضان . ولو علم المسلمون بعضا من الحكمة فى خفاء تلك الليلة المباركة لتهيئوا لها طيلة شهر رمضان ، ولكن - علام خفاؤها 00 ؟! جاء فى التفسير الكبير للرازي،والمعروف باسم ( مفاتيح الغيب ) أن الله تعالى أخفى ليلة القدر فى ليالى شهر رمضان ، ، فلم يبين لنا الليلة تحديدا كما أنه جل ذكره لم يبين لنا أن الصلاة الوسطى ما هي ، والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد ، مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى ، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام ، فعلمنا أن لخفاء ليلة القدر فى تلك الأيام حكمة بين الفخر الرازى فى تفسيره الكبير المعروف باسم ( مفاتيح الغيب ) وجوها منها : 1- أحدها : أنه تعالى أخفاها ، كما أخفى سائر الأشياء ، فإنه أخفى رضاه في الطاعات ، حتى يرغبوا في الكل ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء ، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة ، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف ، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان. 2- وثانيها : كأنه تعالى يقول : لو عينت ليلة القدر ، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية ، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية ، فوقعت في الذنب ، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك ، فلهذا السبب أخفيتها عليك ، فكأنه تعالى يقول : إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن عصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر ، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب. 3- وثالثها : أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها ، فيكتسب ثواب الاجتهاد. 4- ورابعها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر ، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان ، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر ، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ، يقول : كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء .فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة له ؟! فحينئذ يظهر سر قوله تعالى " إِنِي أَعْلَمُ مَالاً تَعْلَمُونَ " ( البقرة : 30 ) ولهذا السبب وغيره أخفى الله تعالى ليلة القدر في شهر رمضان. أما قول ابن عباس رضي الله عنهما بأنها ليلة ( 27 ) السابع والعشرين من شهر رمضان ، فقد مال الإمام الشافعي إليه . وهو ما عليه معظم الآراء ، وذكروا فيه أمارات منها : 1- ذكر ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة ، وقوله تعالى " هِىَ " هي السابعة والعشرون منها. 2- وثانيها : روي أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس : غص يا غواص. فقال ابن عباس : أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر ، وأحب الوتر إليه السبعة ، فذكر السموات السبع ، والأرضين السبع ، والأسبوع ، ودركات النار ، وعدد الطواف ، والأعضاء السبعة ، فدل على أنها السابعة والعشرون. 3- وثالثها : نقل أيضاً عن ابن عباس ، أنه قال ( لَيْلَةِ القدر ) تسعة أحرف ، وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين. ولكن – من أخذ بهذا الرأى وحجته قوية ومقبولة ، كان عليه أن يتنبه أن ذلك مقبول فى حالة كون الشهر العربي 30 ثلاثون يوما فى كل عام وهو ما لم يقل به أحد لأننا نحسب الشهور العربية بمنازل القمر، فنصوم كما أمرنا لرؤية هلال شهر رمضان ونفطر كذلك لرؤيته. وطالما أن هناك سنينا يكون فيها الشهر 29 تسع وعشرين يوما ، فيصعب القول أن ليلة القدر هى ليلة 27 سبع وعشرين ، إلا إذا كان الشهر 30 ثلاثون يوما ، ولكن – من يستطيع أن يقطع أن الشهر كذا أو كذا والأمر برؤية بدايته ونهايته مرهون برؤية الهلال ، فقد يخطى الرائون أو يغم عليهم. ومن هنا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم كما فى حديث السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ". أما سر عظم قدر ليلة القدر وشرفها وارتفاع شأنها من بين الليالي ، فقد نبهنا إليه ربنا تباركت أسماؤه فى قوله تعالى " وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ " يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها ، ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه : 1- أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة ، لأنه كالمستحيل أن يقال إنها " خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ " فيها هذه الليلة ، وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير . 2- وثانيها : قال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر. 3- وثالثها : قال مالك بن أنس : أُري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعمار الناس ، فاستقصر أعمار أمته ، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم. 4- ورابعها : روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن ، قال : قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود ! وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد ، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه ، فأنزل الله تعالى " إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر " إلى قوله تعالى " خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ " ، يعني ملك بني أمية. قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية ، فإذا هو ألف شهر. وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية ، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني : أعطيتك ليلة هي في السعادات الأخروية أفضل من تلك السعادات الدنيوية . واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفاً وثمانين سنة ، وهو ما يقرب من 83 ثلاث وثمانين سنة ، فمن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعماراً كثيرة ، ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدراً . يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ، ويجاء برجل من هذه الأمة ، وقد عبد الله أربعين سنة ، فيكون ثوابه أكثر ، فيقول الإسرائيلي : أنت العدل ، وأرى ثوابه أكثر ، فيقول : إنكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون ، وأمة محمد كانوا آمنين لقوله تعالى " وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ " ( الأنفال : 33 ) ، ثم إنهم كانوا يعبدون ، فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثواباً . أما وقد ثبت عند العقلاء بأن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها ، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة. ( وعلى الله قصد السبيل ) [email protected]