أتت جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة المصرية بأسوأ خيار للشعب المصري ، إما اختيار تيار الإخوان المسلمين بكل ما أحيط به من غموض ومن مخاوف من فرض قيود على الحريات تحت لواء حكم الدولة الدينية ، أو اختيار العودة إلى الحكم العسكري القديم والمدعوم ببقايا نظام مبارك . المتابع لسيناريو الانتخابات المصرية الأخيرة يكتشف بنظرة فاحصة احتمالية أن يكون هذا السيناريو مدبرا ، ويثير شكوك بأن المجلس العسكري قد أدار الثورة المضادة بالشكل الذي يسمح بجذب قوى التغيير للخلف ، والعودة بالثورة إلى نقطة الصفر وكأن شيئا لم يحدث. يبدو أن المجلس العسكري قد عمد إلى تخيير الشعب المصري بكافة طوائفه بين أمرين كلاهما مر ، ثم استخدم وسائل الإعلام في ترويع المواطنين من خطورة حكم الإخوان ، وإنهم قادمون لإقامة الدولة الدينية– دولة المرشد القائمة على اضطهاد الأقباط ، وفرض قيود على الحريات ، ومحاربة سبل الحياة العصرية الحديثة ، وقمع التيار الليبرالي ، حتى يضطر الشعب إلى اللجوء إلى خيار دولة مبارك في شكلها المجمل ممثلة في الفريق احمد شفيق. أتجول بين شوارع وربوع مصر وأقابل كثيرا من الأصدقاء والمعارف بل والأغراب ، وكم كانت دهشتي من ردود أفعال المواطنين البسطاء ، وغير البسطاء ، وكم التأييد الغريب لانتخاب الفريق أحمد شفيق خوفا من حكم الإخوان وأملا في عودة الأمن . يمثل الفريق أحمد شفيق رجل الثورة المضادة ، والتي يبدو أن المجلس العسكري قد أدارها باقتدار حفاظا على مصالح المؤسسة العسكرية في الأساس قبل الحفاظ على مصالح الوطن . لم يأت شفيق مرشحا من تلقاء ذاته ، أو بصفته يحمل مشروعا للنهضة كرجل مستقل ، وإلا لكسب تأييد كثيرا من الثوار . ولكن يبدو أن شفيق قد تم زرعه من قبل قوى الثورة المضادة المقاومة للتغيير للوصول به إلى سدة الحكم . فكل عناصر الجهات الأمنية وعائلات الضباط واسر العسكريين تقف خلفه ، وكل رجال الحزب الوطني بنفوذهم المنتشر في قرى ومدن مصر ، ورجال مبارك ومعاونيه يؤيدون شفيق . ومعظم كبار رجال الدولة بالجهاز الادارى للدولة وكبار الموظفين بالهيئات والوزارات والمحليات يؤيدون شفيق . معظم رجال الأعمال وسماسرة الاراضى وكبار التجار وأصحاب المحال التجارية وملاك الاراضى والفنادق والقرى السياحية والعاملين بالسياحة يؤيدون شفيق . ومعظم العاملين بمجال الوسط الفني والاعلامى والرياضي يؤيدون شفيق ... حتى أصحاب المسرحيات الجميلة مثل مسرحية " مرسى عاوز كرسي " للفنان أحمد بدير ، ومسرحية " عش المجانين " للفنان محمد نجم لا استبعد أن يمنحوا صوتهم للفريق شفيق ليس دعما له ولكن خوفا من احتمال تزمت الإخوان في تعاملهم من الفن المصري . ومن الطبيعي أن معظم طوائف الأقباط تؤيد شفيق . والمتابع لحملة الفريق أحمد شفيق يلاحظ أنه لم يستخدم الدعاية المكثفة ، فقلما تجد له صورة أو لوحة أو بوستر في شوارع المحروسة ، وقد أعتبر البعض أن ذلك تعاليا منه ، فيبدو أنه يستشعر عدم الحاجة إلى تعريف نفسه للمواطن العادي .. فهو الفريق طيار أحمد شفيق . وقد أعتبر البعض أن ذلك يعكس جبروت القوة وأنه آت لا محالة إلى سدة الحكم في مصر بحكم قوى الثورة المضادة التي تقف خلفه ، على حين يرى البعض أن تلك محاولة مقصودة لخلق شعور عام لدى المواطن العادي بأنه لا يملك من الأموال الطائلة ما يمكنه من الإنفاق المكثف على الدعاية الانتخابية . وبذلك فهو الرجل البسيط البعيد عن الفساد ووجوه التبذير . ونظرا لأن الفريق شفيق لا يجيد فن الحوار السلس المقنع ، فقد أتخذ من عبارة "الأفعال وليس الكلام " شعارا لحملته ، ولا أدرى ما هي الأفعال الواردة بشعار حملته الانتخابية ؟! فيبدو أنه مرشح بلا برنامج انتخابي محدد . ليس مستغربا أن نجد كل قوى الثورة المضادة ، وكل المستفيدين من فساد النظام السياسي السابق وهى تؤيد الفريق شفيق . وليس مستغربا أن نجد مواطنا عاديا قد فر من روع الانفلات الأمني المتمثل في مجموعة من الأخبار الملفقة التي تتناولها وسائل الإعلام عن عمليات خطف وسطو مسلح وتهريب سلاح وقذائف هاون ، وربما طائرات هليكوبتر ، ومهرولا في اتجاه طلب النجدة من الفريق شفيق . ليس مستغربا أن نجد سيدة مغيبة تخشى أن يعيدها الإخوان المسلمون إلى المنزل ويمنعوها من ارتداء الملابس العصرية وهى تعلق لافتة دعاية للفريق شفيق على سياراتها الفارهة . ليس من المستغرب أن تبكى سيدة قبطية خوفا من وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم وتعرضها للاضطهاد الديني . ليس من المستغرب أن تجد عناصر الثورة المضادة وهم يكتبون على جدران الشوارع يسقط يسقط حكم المرشد محاولين استبدال شعار شباب الثورة يسقط يسقط حكم العسكر وقلب الطاولة في الاتجاه المضاد. ولكن ما أدهشني وأشعرني بالإحباط موقف عدد ليس بالقليل من الشباب ممن كان يؤيد الثورة ويدعو لها ويطالب بالتغيير وقد تحول بقدرة قادر إلى مناصر للفريق شفيق ، وبعد أن كان المطلب يسقط حكم مبارك ولا للنظام الفاسد ، كانت الدعوة إلى "يحيا الفريق شفيق ... " هو ده الراجل اللي هايظبط البلد" ، على حد تعبير أحد الشباب. هؤلاء المتحولون هم سبب شعوري خلال الأيام القليلة الماضية بأنني أحيا في "عش المجانين" . وقد أكد شعوري هذا ما لاحظته من انتقاد البعض لي باننى من أنصار الإخوان عندما عبرت عن رغبتي في اختيار الدكتور مرسى في سباق جولة الإعادة ، وتذكرت كيف اتهمني الأصدقاء وأنا أصوت ب "لا" على التعديلات الدستورية بأنني مع تحالف الأقباط . كما اتهمني نفس الأصدقاء بأنني من أنصار الأقباط عندما منحت صوتي لتيار الكتلة المصرية في انتخابات البرلمان السابق . نفس هؤلاء الأشخاص - الذين عجزت عن إقناعهم في السابق بعدم التصويت لحزب الحرية والعدالة حفاظا على تحقيق توازن ملائم في تشكيلة البرلمان - يصوتون الآن مع الأقباط لصالح شفيق ويتهمونني بأنني من أنصار الإخوان ... حقا أنى أحيا في "عش المجانين" العش الذي تسيطر عليه نغمة شفيق . وتذكرت مسرحية الفنان الكوميدي محمد نجم في مسرحيته الشهيرة " عش المجانين " والعبارة الشهيرة التي علقت في أذهان الشعب المصري ; عبارة "شفيق ياراجل " التي استخدامها كثيرا محمد نجم في محاولة كوميدية مستميتة للتعريف بشفيق ; وهو رجل عادى جدا لا يختلف عن غيره ، فهو يسير في الشارع مثله مثل الآخرون ، ويلجأ لشرب المياه عندما يشعر بالعطش. وفى ظل هذا الجو المشوه ، وفى ظل تزايد أعداد المطبلين لشفيق سواء كان عن عمد أو عن جهل يحاول الدكتور محمد مرسى أن يجد مكانا له مدفوعا بدعم حزب الحرية والعدالة ومؤيدا بكل التيارات الإسلامية. لا يمكن إعفاء جماعة الإخوان المسلمين من مسئولية اهتزاز صورتهم أمام الرأي العام .. فلهم من الأخطاء الكثير ; حيث أيدوا الاستفتاء بنعم رغم التحذيرات الكثيرة من الحيل التي احتوتها هذه التعديلات ، كما تخلوا عن شباب الثورة في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية ، وحاولوا إقصاء التيارات الأخرى من تشكيل الجمعية التأسيسية ، كما دفعوا بمرشحهم مرسى بدلا من التنسيق مع أبو الفتوح أو العوا أو صباحي مما أكد مدى نفعيتهم وسعيهم لتحقيق مصالحهم الشخصية وإيثارهم لمصالح الجماعة عن مصالح الوطن . وكانت النتيجة النهائية لذلك اهتزاز ثقة التيارات السياسية وفئات عريضة من المجتمع بهم . وهى النقطة التي لعب عليها المجلس العسكري واستخدمها لصالح مرشحه شفيق . وإذا لم يفطن الإخوان لهذه المؤامرة ويقوموا بتجميع تيارات الثورة حولهم في جولة الإعادة عن طريق إصدار وثيقة حقيقية تبدد المخاوف من حكمهم وتعطى ضمانات كافية بمدنية الدولة ، وبأنهم جاءوا لتحقيق الحرية والعدالة ، فسوف يفقدوا الكثير من الأصوات في جولة الإعادة ، وقد يقعوا في فخ الثورة المضادة ويخسروا سباق الرئاسة ، وقد يخسروا البرلمان من بعده ، وحينئذ لا يلومون إلا أنفسهم . وصلنا إلى جولة الإعادة ، وأتوقع أن ينجح سيناريو الثورة المضادة في تصعيد الفريق أحمد شفيق إلى سدة الحكم . ليس عن طريق تزوير الانتخابات ولكن عن طريق الرهان على قيام طوائف عديدة من الشعب بإيثار اختيار مرشحهم تجنبا للوقوع تحت حكم الإخوان أو دولة المرشد كما يشاع الآن . وفى ظل هذا الجو المشحون ضد الإخوان ، وفى ظل حالة الجنان التي أصابت بعض طوائف المجتمع والتي تمثلت في الانقلاب على الثورة في اتجاه تأييد شفيق وكأننا نحيا في عش للمجانين لا تسمع فيه إلا عبارة شفيق ... شفيق يا راجل ، لا يتوقع أن يجد مرسى كرسيا له داخل هذا العش ، ولا يتوقع لجماعة الإخوان المسلمين أن تكسب سباق الرئاسة . وعلي جماعة الأخوان المسلمين حينئذ أن تعاود مشاهدة مسرحية " مرسى عاوز كرسي " للفنان أحمد بدير والقائمة على فكرة انه يمكن تحقيق أحلام المجتمع عن طريق كسب حب وتأييد الناس دون الحاجة إلى كرسي أو منصب . ولذلك ، يتعين على جماعة الإخوان المسلمين العودة إلى قواعد المجتمع محاولين تصحيح أخطائهم من خلال إقناع المجتمع بأنهم وطنيين ، لا يسعون إلا لخدمة الوطن، وقادرين على استيعاب كافة التيارات المدنية دون فرض قيود على الحريات الشخصية أو معاداة الشرائح التي لا تنتمي لهم ولا تشجعهم ; مثل شرائح الإسلام المعتدل ، وشرائح الأقباط ، وشرائح الليبراليين والعلمانيين. حتى يتمكنوا من خوض سباق الرئاسة القادم على أرضية صلبة. إن ما أخشاه أن يذهب الشعب المصري بطوائف النساء الرافضين لحكم الإخوان ، وطوابير الأقباط القلقين من حكم المرشد ، وجيوش أصحاب المصالح ممن رفضوا الثورة من الأساس لتعارضها مع مصالحهم المرتبطة بحكم النظام السابق لاختيار الفريق أحمد شفيق . وازداد قلقا من تزايد أعداد الشباب ممن أدعوا رفضهم للنظام السابق ثم عادوا وأيدوا الفريق شفيق بحجة أن "البلد محتاجة راجل عسكري" .. وكل ما أخشاه أن يأتي الثلث الأخير من يونيو 2012 بأحمد شفيق رئيسا لمصر ، وحينئذ سيشعر كل شباب الثورة المخلصين المتمتعين بحس وطني وحبا لمصر بقسوة اللطمة التي أخذوها عندما يروا الفريق شفيق ومن خلفه مؤيدي الثورة المضادة وكأنهم يخرجون ألسنتهم لهم ضاحكين ولسان حالهم يقول " كل ثورة وانتم طيبون " . آنذاك لا أتصور مدى الانكسار والمهانة التي سيستشعرها شباب الثورة الأحرار، وكل مواطن حر تمنى أن يرى مصر على مشارف الدولة المدنية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة ; مهانة يونيو 2012 ، وهى مهانة لا يضاهيها انكسار يونيو 67 ، انكسار شعب قام بثورة ضد الحكم الديكتاتوري المستبد وتحمل عاما ونصف من الفوضى والخسارة ثم ذهب ليتراجع عن ثورته مطالبا بعودة النظام الذي ثار عليه ممثلا في رجل المؤسسة العسكرية والثورة المضادة الفريق أحمد شفيق الذي تسلم الراية من المشير عن طريق صناديق الانتخابات ، بعدما تسلمها المشير من الفريق مبارك الذي تخلى عن منصبه تحت ضغط قوى التغيير. وعندما يطل علينا الفريق أحمد شفيق في مشهد مأساوي تحيط به حرارة يونيو 2012، ورغم توقعي بأنه سيأتي ببعض الإصلاحات لطمأنة الرأي العام بأن فساد النظام القديم لا مجال له للعودة ، وبأنه سيتلافى أخطاء النظام السياسي السابق والتسامح مع معارضيه .. إلا أن صعوده إلى سدة الحكم لن يرضى كثيرا من شباب الثورة الذين سيشعرون وكأن عبارة مخيفة صادرة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة موجهة لشباب الثورة وقوى التغيير في لهجة عسكرية حازمة ... " كما كنت ّ" .