وجه جميل لم يستطع الزمن محو جمال هذه المرأة، لا أتكلم عن الجمال الذي يسترده الزمن ويبدله بشيخوخة ولكنه الجمال الروحي السرمدي الذي لم يستطع الزمن محو أثره، بل زاده بريق وجمال، وكلما ازدادت شيخوخة الجسد أزداد معه جمال وبريق عينين يكاد الأعمى رؤيتهما، تتحدث همسا يكاد الأصم يعشق صوتها،ً هذه هي تانت ميمي. كانت جارتنا صديقة للعائلة وخاصة جدتي فاطمة...... الله عليها، تحنو علىً عندما كانت جدتي تقسو وتفي بما أحنثت به الجدة، وكم من وعود كاذبة تلقيتها و تانت ميمي تفي، كانت عاشقة للإنسان، عينها لا ترى سوى الجمال وتعيش في سلام مع ذاتها، تزوجت زميلها وكانت نعم الأخت والزوجة والصديقة والخادمة له، ونالت أقل ما تستحق، لم ترزق بالأولاد ولم يمهلها القدر مات الزوج وتركها وحيدة وعاشت مع ذكرياتها، عاشت في محرابها الذي صنعته بأيديها كم كانت تشع سعادة وكل حولها يشعر بالكم الهائل من السلام النفسي لهذه المرأة، ناكرة ذاتها تعمل من اجل الأخر دون انتظار مقابل مادي كان أو معنوي. كنت طفل لا أفهم هذه المرأة، ولكني كنت أشعر بها، والطفل لا تستطيع اللعب بمشاعره أو خداعه، كنت دائماً ألقبها بماما ميمي فعطائها بلا حدود ليس معي وحسب، توقفت ذاكرتها عند عام 1986 حين مات زوجها وتحديداً مونديال كاس العالم وهدف الأرجنتين الشهير بيد مارادونا في مرمى الانجليز، عاشقة لكرة القدم وأم كلثوم وكلاسيكيات باخ وموتزارت و بيتهوفن وأفخر أنواع النبيذ، لا تحيد عن طقوسها المعتادة -التي أدمنتها- صلوات الآحاد ووضع وردة بيضاء على قبر زوجها وهي باسمة الوجه مرتدية أجمل لباس لديها. تركت منزل الجدة هرباً من قسوتها وذكرياتي الأليمة معها، وعدت بعد أن تخطيت الأربعين، لم أطرق باب جدتي وطرقت باب العمة ميمي، وذهلت - ولم يدم ذهولي طويلاً- عندما نادتني باسمي، زمن طويل مضى وها هي تتذكرني لم يستطع الزمن سوى سلب شباب مظهرها فقد تبدل الشعر وصار أبيض كثلوج جبال الالب ومازالت على رونقها الجذاب رغم التجاعيد التي ملئت وجهاها وزادته جمالاً، أفقت بعد أن رايتها تحتضن ابني منادية إياه باسمي، لمعت عيناها واتسعت كعين مها والعين -أيضا- ُ تبتسم. جلسنا نشاهد نهائي المونديال ونجتر الذكريات سوياً، كانت تكلمني وتنظر إلى ولدى الوحيد وكأنها تكلمه ولا تراني، فقد رأتني في أبني لا تريد أن تهرب من ذكرياتها، فقد توقف بها الزمن عندما كنت في عمر أبني، و أوشكت المبارة على الانتهاء، هجمة هنا وأخرى هناك وهي ما زالت على حماسها تشجع مارادونا. ما أحلى الرجوع للذكريات الجميلة، مر بنا الوقت سريعاً وأبني الوحيد مستمتعاً بجلستنا هذه ظناً أن العمة ميمي هي جدته وأنا أناديها بأمي، ودعت العمة ميمي وعدت أدراجي دون أن أزور جدتي، وإذ بابني يسألني: - مين مارادونا ده يا بابا ابتسمت وحمدت الله أن أبني لا يفهم في كرة القدم، فكان مارادونا لا يلعب ولا حتى الأرجنتين، فقد أعتزل هذا اللاعب كرة القدم قبل أن يولد أبني أسألكم الفاتحة .