صندوق خشبى كبير كانت البيوتات العريقة تحتفظ به فى المنزل، وعادة ما تبدو السحارة بشكها المميز بصفائح معدنية وحفر على الخشب، وعندما تفتحها تفوح منها روائح البخور الشرقية وتظهر منها قطع الملابس القديمة يدوية الصنع الموشاة بخيوط الذهب والفضة. السحارة صندوق الذكريات وخزانة الثمين والغالى كانت تضم الكثير: وثائق مهمة، رسائل عائلية وغرامية، عقود ملكية عقارات وحيازات أراض زراعية، أنتيكات ثمينة من الفضة والعاج والأبنوس، صور أبيض وأسود، ملابس تعود للجد أو الجدة أو الأب والأم ارتدوها فى مناسبات لا تنسى مثل الزواج والسبوع وأشياء أخرى. كان لدى جدتى لأمى- رحمها الله- سحارة رائعة، كلما ذهبت لزيارة جدتى كنت أحرص على التسلل لحجرة نومها وفتح خزانة أسرارها. تقفز أمام عيناى تفاصيل حياتها التى لم أعشها، وبقيت ذكرياتها فى ثوب زفافها الذى فقد بريقه بفعل الزمن المطرز بخيوط الفضة، كنت ألمسه برفق حتى لا يتمزق بين يدى وطرحة زفافها المصنوعة من أسلاك فضية طويلة. فى قاع السحارة كانت جدتى تخفى ذكريات الأحبة الذين فقدتهم مبكرا، الزوج والابن البكرى.. صورة جدى وهو جالس على مقعد فخم وهى تقف بجواره لا تميز ملامحهما من قدم الصورة البالية، بعض من ملابس خالى وكانت حريصة على تعطيرها، أستحضر حزنها عليه وحرصها على الاحتفاظ بأشياء من رائحة الغالى: مسبحته الطويلة وشاله وعباءته الصوف. كانت هناك عقود ملكية خضراء طويلة ملفوفة ومربوطة بشريط من الجلد، خلاخيل فضة وذهب وأمشاط شعر من الأبنوس مطعمة برقائق من الذهب البندقى. أكثر ما كنت أستمتع به عرائس مصنوعة من القماش لا تعرف جدتى لمن تعود ملكيتها وكانت تسمح لى باللعب بها، أحتضنها وأشمها و... تستهوينى رائحة الزمن. ماذا بقى من فكرة السحارة؟ الأشياء الثمينة تحفظ الآن فى خزنة الدولاب أو البنك، الملابس واللعب القديمة جدا يتم التخلص منها باعتبارها كراكيب، قطع الحلى التى ورثناها تباع لشراء بدائل على الموضة، الرسائل الوردية ذات الخط المنمق والتى تحوى فى طياتها وريقات من الورد والياسمين المجفف استبدلت بالشات والأيميل، الصور الأبيض وأسود كبيرة الحجم لم يعد لها مكان، ف«سى دى» كاف لحفظ عشرات الصور العائلية. سحارة حجرة النوم لم يعد لها مكان، استبدلناها بالجزامة فهى أكثر نفعا، بعد ضيق المساحات والقلوب. لم يعد للذكريات وطن، الرؤية العملية للحياة مطلوبة ولكن تبقى أشياء تستحق أن نحتفظ بها لأنها تضفى على الحياة طعمًا وروحًا ليس لنفعها ولكن لقيمتها وجمالها مثلها مثل اللوحات الفنية الأصلية. لماذا لا نستعيد فكرة السحارة؟ ليس المهم أن نشترى صندوقا ضخما نزحم به حجراتنا وبيوتنا الصغيرة، لكن لنحرص على أن نحفظ لأولادنا أشياء من رائحة الجدود، فالذكرى تاريخ أو كما نقول «ناقوس يدق فى عالم النسيان».