كان هناك توأمان في بطن أمهما ، كان لهما حديثهما الخاص داخل رحم الأم ؛ فالرحم هو عالمهم الوحيد الذي يعرفونه ولا يتصورون أن هناك عالمًا آخر ، كانوا يلعبون معًا ويتحركون في السائل الذي يغلفهم وتتلامس أيديهم في حنان فيشعرون بالدفء والأمان .. كانوا حقًا في سعادة غامرة رغم أنهم لم يستخدموا من حواسهم غير اللمس والسمع .. حينما حان وقت الميلاد ؛ نزل التوأم الأول تاركًا أخيه وحيدًا .. حزن التوأم الثاني وبكي في بطن أمه على فراق أخيه الذي قد مات ... هكذا ظن عن أخيه .. لم تمر دقائق حتى لحق التوأم الثاني بأخيه .. هنا عرف الحقيقة أن الموت الذي ظنه ، ما هو إلا حياه أخرى أكبر وأدهش من الأولى بما لا يقارن .. إن رحم الأم هو الدنيا الأولى التي نبكي حينما نتركها بينما ينتظرنا عالم آخر ملئ بالمتع التي لا تقارن ... أيضًا حينما نموت ونترك رحم الدنيا يبكي الآخرون علينا ولا يتصوروا أبدًا أننا انتقلنا إلى ميلاد ثان وليس موت .. إلى عالم أرحب لا يمكن تخيله .. فهل يستطيع الجنين أن يتصور ما خارج الرحم !!! .. هكذا نحن أيضًا. هكذا قصت عليّ صديقتي حتشبسوت تلك الحكاية الغريبة الممتعة ؛ صمت قليلاً ولم تفارق شفتاي إبتسامة الأمل وأنا سارح في القصة .. كنت أحاول أن أتخيل ما الذي ينتظرني حينما أموت .. أقصد أولد .. قطعت خيالي قائلة: - لماذا تصمت هكذا؟ - سؤال يا حتحت .. يا ترى بتحكيلي الحكاية دي ليه؟ .. أنا متعود إنك دايما بتربطيلي الفلسفة والحكمة بلغتكم العظيمة. - بالفعل .. فأنا لم أنتهي من حديثي بعد ؛ بل أنت ظننت ذلك. - طب كملي .. أصل الحكاية مؤثرة وعمري ما فكرت فيها بالعمق ده. - كنا نطلق كلمة "موت" على الرحيل من الدنيا ؛ وكنا نطلق على الأم أيضًا كلمة "موت" ؛ أتعرف لماذا؟ - ليه؟!! - لأننا عرفنا بحكمتنا أن "الأم" هي الدنيا الأولى التي يعبر منها الجنين إلى الدنيا الثانية ؛ وأيضًا "الموت" أو الرحيل هو القنطرة الذهبية التي يعبر منها الإنسان من الدنيا الثانية إلى الآخرة حتى أننا سمينا المقبرة "مصطبة" .. هل تعرف لماذا؟ - ليه يا ترى؟! - كلمة "مصطبة" أو كما كنا نكتبها "مستبت" هي كلمة مركبة من "مس" بمعنى (ميلاد) ، ومن "تبت" بمعنى (تابوت) .. أي أن المعنى الحرفي هو (تابوت الميلاد) .. فنحن نعرف ذلك منذ البداية. - ياااااه ... معلومات حلوة جدًا .. إنتي فكرتيني بتعبير غريب ، قلبي بيتقبض وبتشائم لما أسمعه ، ده غير إني مش فاهمه .. التعبير ده هو تعبير "لقي حتفه" .. يا ترى معناه أيه؟ - ستتعجب أن هذا التعبير من أجمل التعبيرات عن الرحيل ؛ فكنا نقول "حتب" – بباء مثلثة – بمعنى (راحة ، سلام) ، وتطورت الكلمة في العربية فصارت "حتف" بعد أن تحولت الباء المثلثة إلى فاء .. فكان تعبير "لقي حتفه" يعني بكل دقة (وجد راحته) أو (وجد سلامه) .. هل هناك أفضل من هذا؟ - ياااااه ... رائع فعلاً .. بس عندي سؤال: إحنا لما بنموت بنسيب الجسد بدون حياه ، ويمكن ده اللي بيخوف الناس .. ليه ما نمشيش بيه للحياه التانية؟ - سؤالك مشروع يا صديقي .. ولكني سأجيب سؤالك بسؤال: لماذا يترك الجنين المشيمة وهو يخرج من دنياه المظلمة الأولى؟ وأدعوك أن تتأمل إسمه العامي "الخلاص" .. إنها قشرة لم تعد تناسب حياة النور الأولى ، وهكذا الجسد مجرد قشرة لم تعد تناسب حياة الروح الأخيرة التي سنستغني فيها عن الحواس الضعيفة ونستخدم من الحواس ما لا يمكن وصفه .. ستري – وإن كانت تري كلمة غير معبرة – ما لم يخطر على بالك. - فعلاً الموت ده مجرد عبور لعالم تاني ؛ أنا بفتكر إخوانا المسلمين بيقولوا "رحل عن عالمنا" ، و"انتقل إلى رحمة الله" ، والصعايدة يقولوا "سافر" .. كلها معاني تعبر عن انتقال فيه حياة .. وكما إخوانا المسيحيين يقولوا "رحل إلى السماء" ، "رقد في الرب" ، و"تنيح" وبتؤدي نفس المعني. - كلامك مظبوط. - لكن في تعبيرات تانية كتير ؛ زي "لقي مصرعه" ، "ووافته المنية" ، "توفي" ، وكلمات كتير .. هل دي كلها حلوة؟ - هل أصبت بالزهايمر يا صديقي؟ .. لقد ذكرت كل ذلك في موسوعتك "أصل الألفاظ العامية من اللغة المصرية القديمة" .. هل بدأت تنسى؟ - الواحد معاكي يا حتحت بينسى كل حاجة .. لكن إنتي كده حببتيني في الموت .. طب أكيد كنتوا بتسموا الجسد أسماء تجنن في الحكمة ... إديني شوية معاني للجسد الله يكرمك. - صديقي الموضوع يحتاج لساعات ، وأعتذر منك أني مضطرة أن أتركك الآن ، وعلى وعد بلقاء قريب. - مش هقدر أقول غير إني بلاقي حتفي فيكي ... يعني بموت فيكي. - سلام .. وحتمًا سأفتقدك وسآتيك. سامح مقار القاهرة 11 أبريل 2012