لا أدري لماذا بقي ديوان الشاعر عبد الواحد باشوات "زمن الرحيل" غير معروف برغم مرور قرابة الثلاثين عاما على صدوره؟ كأنما الشاعر أطلقه في الآفاق الجهنمية ليتلقفه الصمت و النسيان. تصرّمت سنوات زمن الرحيل في إغماضة عين و معها ذاب إسم شاعر ما كاد يولد حتى شمله النسيان، ليس هناك من تفسير لبقاء تلك القصائد الجميلة طي الركام و هو ما يعطي إنطباعا أكيدا حول تواطئ جماعي لإختفاء تلك المجموعة الشعرية و تغييّب كاتبها عنوّة ،فالحياة الأدبية في الجزائر أوكسجينها: الإقصاء و لا يحتفي أصحابها"المفترضين" إلا برموز الرداءة، فالفارغون دوما هم الأكثر ضجيجا. هذه هي سنة الكتابة عندنا و هم للأسف من يقدمون أنفسهم في كل مرة كحماة للكتابة و حراس على بوابة الإبداع مع أنهم بعيدون كل البعد عن الأدب كفعل إيجابي قبل أي شيء. ينتمي الشاعر عبد الواحد باشوات الى جيل السبعينيات كتابة و سنوات الثمانينيات إصدارا، كاتب مخضرم جاء بين البينين،لكنه لم يتورط في الحسابات الإيديولوجية التي طبعت الأدب إبان تلك الفترة المشهودة بزخم الإشتراكية بل شكلت كتاباته الشعرية فارق واضح عن السائد آنذاك،و كان إستثناءا بصوته المتفرد خارج الخطاب المؤدلج للنظرية الإشتراكية و مكتسباتها التي ظهرت كخلفية لمشروعية غالبية النصوص التي أفرزتها تلك الحقبة في الجزائر.ففي "زمن الرحيل" يمكن أن تقرأ شعرا خالصا من أية شوائب تعكر صفو العملية الإبداعية و تغير من مزاجها الأدبي الأصيل أي الأدب من أجل الأدب فنقرأ مثلا : إنس يا قلب، ففي النسيان خير و صلاح و دواء و شفاء... من تباريح الجراح إنس عهدا من حياتي،مر مشبوب النواح بين آلام ! و آمال ! وحزن ! و إنشراح قد طوى الماضي رؤاه !و أمانيه الصباح. تتميز أشعار عبد الواحد باشوات بنقاوتها و سلاستها و بشكلها السبعيني الطاغي، فهي سبعينية الشكل عمودية الوزن ، غنائية الإيقاع و أحيانا حرة عالمية التجلي،متحررة، تسمع من خلالها لطنين الحداثة و رجع لصدى شعراء كبار أمثال بدر شاكر السياب، و خليل حاوي، و نزرا قباني تجد أيضا ت.س.إليوت و سكوت فيتسجيرالد و الشابي و ثلة من الأسماء التي عاصرها الشاعر، قرأ لها و تأثر بشعرها. ففي قصيدة عنوانها "إرادة الحب" يتماهى فيها الشاعر مع القصيد الشهير لشاعر تونس الأكبر الشابي "إرادة الحياة" حيث يقول فيها: إذا الحب يوما غزا بغتة فؤادا، فلا بد أن ينتصر و لا بد أن يشتكي في الحياة و يشرب كأس الأسى و الكدر و من لم يمس الهوى قلبه قضى عمره جامد كالصخر كذلك قال مليك الهوى و أصدر أحكامه و أمر. لقد مهدت البيئة التي نشأ و ترعرع فيها الشاعر لبروز موهبته الشعرية،مسقط رأسه تبسة تلك المدينة الحدودية القصيّة التي وجد فيها الشاعر جوا يتناسب للتعبير و التحبير،ولكنه يتنقل بشكل مفاجئ في بداية السبعينيات الى الجزائر العاصمة ليستقر في حي باب الوادي اين قضى هناك بقية شبابه المفعم بالحيوية و طلب العلم فتلقى تعليمه الثانوي بثانوية الثعالبية بحسين داي و تحصل على إجازة البكالوريا في العلوم و إختار متابعة دراسة الطب. لكن قلمه خلال تلك المراحل لم ينضب أو يمل من قرض الشعر بل وجد في عزلته لذة لا يضاهيها شيء سوى لحظات تأمل و كتابة ليرسل نغمات صادقة يحث نفسه من خلالها على السمو و المشي الى الأمام و في قصيدة مقتبسة عن حبيب سالم يقول الشاعر: قم...قم إبحث عن طريق الشمس إصعد الى السماء...و اقطف النجم المزهر ! ارتبط بأعلى الليل إرفع عينيك الى السماء... قم...قم أنت الذي تحلم بالحب و تتجرع الألم هيا...أنضم سمفونية من كآبتك و أساك ترتفع حولك...و تزن في قلبك أنضم ملحمة أزلية و إلياذة أبدية. هذه لهجة منطقية،علمانية،فالطريق لا يكون إلا بالقيام ثم المسير.و الطرقات هي ثمرة السير و الحركة و المحاولة و البحث عن سلم الحياة الرفيع. لقد سار عبد الواحد باشوات في شعره على هذا النمط من التعبير المباشر الصادر من أعماق أعماقه و هذه الطريقة مهدت له الولوج في جيل الثمانينيات بإمتياز،جيل إدريس بوذيبة، و أزراج عمر، سليمان جوادي،مبروكة بوساحة،عبد الله حمادي...و غيرها من الأسماء الطليعية التي قدمت الكثير للشعر الجزائري ،لذلك سجل عبد الواحد باشوات كغيره من شعراء عصره،على صفحات الشعر أخلد لوحات الطبيعة و الحب و كلها أوحت له بها أرياف تبسة الجاسية –القاحلة- الباردة-حيث يعسر على المرء بعد المسير الطويل أن يرى شجرة أو خضرة لكن نضارة أشعاره حولت من ذلك القحط حبا عارما لتلك الأرض التي ربطت قلبه بأولى الصبوات و تباريح العشق المشبوب و إن عري ظاهر تلك الأرض فباطنها غني بالذكريات.فكان تعبيره عما يخالج نفسه من حب أو تأسي أو ألم ما في الروح جاءت بأسلوب رومانسي معاصر يختلف تماما عن الرومانسية الباكية، إنها رومانسية الواقع التي عمدت الى تصوير الحالة الإنسانية بإستعمال الجمال للتعبير عن الحزن ! كنت لا اعرف ما هي الهموم؟ ما هي الأحزان؟ما هو الألم؟ إذ بها تعصف كالريح السموم في فؤادي ثم تنمو من عدم ! وإذا بي أبصر آمالي تذوى مثلما تذوي الورود في الخريف و أرى قصور الحب تهوي كما يهوي على الأرض الضعيف يتوق الشاعر عبد الواحد باشوات اليوم الى إصدار ديوان ثان لكنه متردد بعد التجربة القاسية التي خاضها مع أولى بواكير اشعاره هو حاليا يعيش في عزلة يكتب في صمت و لا يتكلم إلا نادرا من مواليد سنة 1951 بمدينة تبسة كرمته مؤسسة البابطين بإدراج إسمه في معجم عالمي للشعراء العرب ، مثّل الشعر الجزائري أحسن تمثيل و ادرج إسمه في أنطولوجيا الشعراء الجزائريين الصادرة في سنوات الثمانينات له عدة مساهمات عبر الصحف و المجلات الدورية في الجزائر و الخارج . "الشمس الغاربة" (...) و إذا أوتار عودي تنفصم ويصير لحنها العذب أنين تتعالى عند ذاك سنفنيات الم لوداع ذلك الأمس الأمين و إذا بالشيب يغزو مفرقي و انا ما زلت في فجر العمر و يدب العجز في قلبي الشقي كدبيب السوس في العظم النخر و إذا نجمي يميل للغروب و هو بعد في الهزيع الأول فيسود ليلي همّ و شحوب و يسير راكضا خلف الضياء المنجلي و ربيع الحب من قلبي توّلى و غدا قفرا خليّا بلقعا !!! و مكان الورد و الأزهار حل شوك سعدان مضرا لاسعا. و بأن دوخة الحب النضيرة جردت من ثوبها المخضوضر كسرت أغصانها ريح كبيره فبدت محزنة للنّظر لهف نفسي عن شبابي هل يعود و تعود مثله دنيا الغرام هل لقلبي يقظة بعد الركود ليرى الماضي الذي أمسى حطام هل ترى تنمو ببستاني ورود و يهّل الفجر من بعد الظلام. لا.. فلا بعث لقلبي أو مآب لدفين راقد تحت التراب فإذا ما القارظ العنزي آب فكذاك يرجع عهد الشباب. ديوان"زمن الرحيل" صادر عن المؤسسة الوطنية للطباعة- الجزائر 1980 abdelouahed BACHAOUAT . [email protected]