لا شك أن الوعي يتداخل في جميع جوانب حياتنا، كما أننا نصادفه في كل مكان، وأن الأشياء والظواهر المعرفية غير محدودة، ولا متناهية التنوع. ويعد الوعي المعرفي نوعاً مخصوصاً من الوعي. يتصل بفهم وإدراك الظواهر الجمالية، أو الاستجابة المعرفية لظواهر الكون، بكل ما تعنيه هذه الاستجابة من أبعاد وجدانية ومعرفية وحسية وانفعالية واجتماعية حيث يتخلق هذا الوعي ويتشكل من خلال طبيعة العلاقة بين هذه الأبعاد التي تتفاعل فيها العوامل الذاتية التي ترتبط بخبرة الفرد وقدرته على تأمل الجمال والاستمتاع به. والعوامل الموضوعية التي تتمثل في مظاهر الجمال التي تتبدى في كل ما يحيط بالفرد كيف فعل الأبنودى ذلك، ما الذى كان يفهمه عن معنى الشعر؟ هل يكمن السر فى أنه كان يرى أن شاعر الربابة هو نموذج الشاعر، لأنه يتواصل مع الناس ويعيش معهم، أم أن سر الأبنودى أنه حكى عن الناس البسطاء، الذين كانوا يظنون أن كل شىء نسيهم الدولة والفن والحياة فإذا بشاعر يحولهم أبطالا يقودون الوعى الإنسانى، ويتسببون فى طرح عدد من الأسئلة الوجودية والمصيرية عن كرامة الإنسان ودوره. ويعتبر الفن هو الأكثر قدرة على تبيان الوعي الحداثي الشعري والفني الجمالي، وتجسيده وتمثله، ويتبدى ذلك في طبيعة المعالجات الجمالية للواقع وفي التقنيات الفنية، التي ليست سوى مظهر حسّي لما هو جمالي مجرّد بين طيات مُنجز الأبنودي، ومن هنا فإنّ مقاربة ذلك الوعي لا تتم إلا من خلال مقاربة الشكل الذي يعبر عن ماهية الوعي فالهوية لدى الأبنودي لا تُوجد خارج الإنسان، والإنسان لا ينتمي لها، بل هي التي تنتمي للإنسان، لأنها تُوجد خلال الوعي الإنساني، ليس فوقه ولا خارجه. أي أن الإنسان شيء أكبر من الهوية، لأنه أكبر من الوعي، ولأنه ينطوي على قُدرة لتجاوُز ذاته باستمرار. على أن هذه القُدرة على التجاوُز لا ينبغي أن تجعله يشعر بالغرور، بل إنها تدعو إلى التواضع لأنها تدُل بالاستقراء على أن هُناك دائمًا آفاقا جديدة ممكنة للهوية وللمعرفة والوضع الإنساني. لقد استطاع الأبنودى بكلماته أن يرسم ويناقش العديد من القضايا الفكرية والمجتمعية، متطرقا إلى عدة إشكاليات مجتمعية فى تشكيل الوعى الاجتماعى وإعادة صياغته وصياغة الروابط الاجتماعية. عن طريق رؤية تتسع من خلال ديوان الاحزان العادية حيث قال الشاعر : والرؤية قصادي اتّسعِت بصيت وحاسد نفسي بين خِلاّني تعالوا شوفوا الدنيا من مكاني .. كما عبر الأبنودي عن انعكاس الوعي الجمالي على سلوك الفرد والمجتمع، وكيف يتجلى ذلك في مشاعرهم وأحاسيسهم نحو الجمال، كما يتجلى في أساليب تعبيرهم عن هذا الجمال. حتى أصبح الوعي الجمالي مكوناً أساسياً من مكونات البناء الروحي والقيمي للثقافة خاصة إذا نظرنا إلى الثقافة كما تم تعريفها من جانب منظمة اليونسكو "بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وعلى أنها تشمل - إلى جانب الفنون والآداب - طرائقَ الحياة وأساليبَ العيش معاً، ونُظُمَ القِيَم والتقاليد، والمعتقدات". فيقول الشاعر فى محاولة لإيضاح السبيل الى النور والحلم بموال الغنوة الى اتساع الرؤية : عمري ما شفتش حبال الفجر لونها اسود والاّ دي قضبان وقاصدة تقصص الرؤية والحلم عود شق أسفلتُه وبيعيَّد تسقيه بموّال تقوم جامعُه في أغنية .... ثم يعود الشاعر لتأكيد فكرة تلقي الوعي على لسان فاطنه احمد عبدالغفار فى جوابات حراجي القط وتأصيله لفكرة التنوير وإستيعاب ما يدور حول الإنسان : النبي جواباتك بتنوَّر ضلمة مُخي صُح وضلمة مُخ الحريمات كل ده يا حراجي جرى لَكْ في اسوان ؟ ده انت بقيت عفريت امال ده ماكانش باين ليه يا حراجي هنا في البيت ولا نبالغ إذا قلنا إن الوعي الجمالي لدى الأبنودى يؤسس لنوع جديد من الثقافة، تتمثل في ثقافة الوعي وتغدو هذه الثقافة بمثابة الإطار المرجعي الذي يهدي سلوك الأفراد والجماعات ويوجههم نحو إدراك الجمال، والاستمتاع به، كما تلعب هذه الثقافة دوراً مهماً في تشكيل الوعي للفرد والجماعة. وفي إطار هذه الثقافة يتشكل "المثل الجمالي الأعلى"، الذي يحدد معاني الوعي في صوره المتنوعة كما يحدد قيم ومعايير الحكم على الأشياء التى تتشكل من خلال الوعى العقلي في سياق البناء الروحي والفكري للمجتمع للعمل على تغيير الموروثات والعادات الخاطئة . وفى هذا الإتجاه يقول الابنودى فى جوابات حراجي على لسان حراجي القط : أكتر ما اتعلمنا في الجبلاية يافاطنه غلط في غلط .. وأقلها حاجه اتعلمناها غلط .. وان الدنيا حالها كده معدول .. مع إن الدنيا يا فاطنه المعدول فيها غلط اللي مخوفني .. من الجيه حداكم .. لا اتبعتر.. بين الراحة وخلوّ البال والجهل .. وبين المعرفة والعلم اللي دخل دمي ويفضي هذا الوعي إلى بناء ذات (فردية واجتماعية) قادرة على الإحساس بما يحدث حوله ، وقادرة على بث الوعي والثقافة على كل من حولها، وقادرة على محو مساحات الجهل التي تعشش داخل العقول والقلوب. إذ العلم يقتل الجهل، والوعى يحيي خلايا الروح ويجددها. الجهل يهدم الهمم، والعلم يزرع الأمل. ويعزز القدرة على اكتشاف الجمال، والاستمتاع به. وإذا كان وجود الجمال وتبديه في صور متنوعة شرطاً ضرورياً، فإن وعي الفرد وقدرته على اكتشاف هذا الجمال، في كل ما يحيط به، وفي مختلف تفاصيل الحياة اليومية، يمثل حجر الزاوية في الإحساس بالجمال، وتذوقه، وفي بناء الوعي الجمالي.