يعتبر الدين في الكثير من الموروثات الثقافية والحضارية والسوسيولوجية والميتافيزيقية للأمم والشعوب، من أهم المرتكزات الرئيسية التي حافظت على التوازن العقلي والروحي للكثير من المؤمنين عبر الأزمنة والعصور، بوجود قوى خارقة للطبيعة تسير حياة البشر وتوجهها في الاتجاه الذي تريده، وذلك بغض النظر عن اختلاف ماهيتها أو كنهها أو تسمياتها المتعددة والمختلفة، باختلاف اللغات المستعملة في وضعها أو للدلالة المكانية أو الزمنية أو النمطية عليها، وكذا اختلاف ثقافات الشعوب المؤمنة بها. فالدين تاريخياً شكل حجر الزاوية في بناء الكثير من الصروح العمرانية والهندسية والحضارية، التي لم يستطع الزمن محوها إلى يوم الناس هذا كأهرامات مصر أو السودان أو أوكرانيا، و حتى معابد أثينا أو روما أو حضارات شعوب الأستك والانكا، في البيرو والمكسيك أو حتى المعابد الحجرية المنحوتة بطريقة هندسية تفاعلية رائعة في كهوف جنوب إفريقيا، أو غيرها من البلدان التي تؤمن بثقافة الطوطم، كقبائل الهوتسو والزولو. فالدين الذي استعمله الكثير من الحكام والملوك والأباطرة على مر التاريخ، وفي مختلف الحضارات والثقافات وخاصة الشرقية منها، كالحضارات الفرعونية والسومرية أو النبطية أو حضارة الصين وحضارات جنوب شرق أسيا، لتأليه أنفسهم وجعلها في مقام يسمح لهم بالتصرف وفق أهوائهم ورغباتهم الذاتية، وتفصيل قوانين زمنية، لا تمت إلى الإنسانية أو إلى قيم العدل أو المساواة بصلة، فالإلوهية التي أضفاها الطابع الديني على تصرفاتهم، جعلتهم في الكثير من الحضارات وكأنهم أبناء الله، وانسحبت تلك التسميات والعادات على حقب وعصور التاريخ المختلفة، وحتى عندما جاءت الديانات السَّماوية الثلاث الكبرى، لتغير من هذا الواقع الإنساني السَّائد آنذاك، استطاع هؤلاء الحاكم أن يتحايلوا على هذه الديانات وتعاليمها السمحة الربانية، التي تحض في مجملها على نشر قيم الحب والخير والتسامح والعدل ومساعدة الغير، وذلك عن طريق مساعدة المقربين منهم، ومن يختارونهم ليكونوا سدنة على هذه الديانات وممثلين لها، في مقابل منحهم امتيازات مالية وحياتية ومعنوية خيالية، وجعلهم من المقربين، والاستمرار بالتالي في خداع الناس واللعب بعقولهم ومشاعرهم وجعلهم رهن إشارة الحاكم الأوحد، و الذي أصبح مرة أخرى باختلاف الدول والأنظمة السِّياسية، الإله الأوحد والذي تغيَّر لقبه مع تطور الزمن ليصبح الدكتاتور المتسلط المخير، المتحكم برقاب العباد والبلاد، هذا ما جعل كارل ماكس رائد المدرسة الماركسية الاشتراكية يقول بأن الدين هو أفيون الشعوب، فهو إذن كالحقنة المخدرة التي تجعلها في غيبوبة دائمة، بالرغم من كل الاضطهاد والقمع والظلم الذي تتعرض له على يد حكامها الطغاة الظلمة. وبالتالي فإن الشعوب التي تمَّ اضطهادها تاريخياً، كان الدين هو من أهم الأسباب التي أدت إلى سكونها وخنوعها وإذلالها، بالرغم من أن هناك الكثير من النصوص الدينية في مختلف الديانات تحض على مقارعة الظلم والطغيان ومجابهته، ولكن التحالف الوثيق العرى والذي يتجدد تاريخياً، بين السّلطة الزمنية والمكانية، وخاصة داخل الشعوب التي تعاني من انتشار الآفات الاجتماعية كالجهل والأمية والفقر، ومنها الدول العربية التي لا يزال الدين تشكل أحد عناصر الهوية القومية والوطنية، في الوعي الحضاري والثقافي لشعوبها، بينما استطاع الغرب عن طريق حركات الإصلاح الديني والكنسي، وظهور أساقفة ومفكرين كبار كمارثن لوثر، وكانط وجون جاك روسو، وخاصة في انجلترا والتي عاشت فترات متزامنة من الإصلاح الديني، أو ما يسمى حالياً بالأنغليكانية، إصلاح المنظومة القيمية الدينية، وهي التي أرست لوسائط بين العقائد الكاثوليكية والبروتستانتية الدقيقة، ولكنها بالمجمل أكدت على واحدة من أهم النظريات التي استخدمها مفكرو الغرب وفلاسفته لإصلاح السّلطة الزمنية، وهي نظرية سلطة السيِّد الأعلى الراجح والمسيطر على الكنيسة، ونشر الملك البريطاني هنري الثامن سنة 1534م، مرسوم السِّيادة، وفي عام 1549م، استكتب الملك ادوارد السادس كتاب الصلاة بالغة الانجليزية بدل اللاتينية، التي كانت اللغة المتحدثة بها داخل الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى طويلاً، وهي التي تعيِّن وثيقة من 42 مادة 1553م، ووثيقة من حوالي 39 مادة 156 المعتقدات وغيرها. فأوروبا استطاعت إصلاح المنظومة الكنسية الدينية، وعطلت بالتالي السّلطة الزمنية، أو حدَّت منها في تدخلها في أعمال الحاكم، الذي أصبح منتخباً من طرف الشعب، وله مؤسسات دستورية وسياسية، ومجتمعية تراقب عمله، ويتم انتخابه بالاقتراع السَّري لدورة أو لدورتين، وفق مزاج الشعب واختياراته السِّياسية. أماَّ في معظم دول العالم الثالث، والتي ننتمي إليها تصنيفاً وحكماً، فلم نستطع التخلص من هيمنة المؤسسة الدينية وكهنوتها الديني، والتي تختلف تسميتها من بلد إلى أخر، ومن ثقافة الثقافة أخرى، ولكن الشيء المتفق عليه عند هؤلاء جميعاً هو تسخير الدين لخدمة الحكام المضطهدين لشعوبهم، والمخوِّفين لهم بالنصوص الدينية التي هي في الأصل إماَّ محرفة التركيب والصياغة النصية، أو محرفة التفسير و الفهم. فالأنظمة الديكتاتورية القمعية سواء كانت ملكية أو جمهورية أو تلك تدعي بأنها ديمقراطية تعرف بأن الشعوب عاطفية في معظمها، وهي تكرس ذلك عن طريق وسائل مختلفة سواء كانت تربوية أو تثقيفية أو إعلامية، فتسلب المواطن عقله وروحه وقبله، وتحرمه من حقوقه الأساسية وأولوها حقه في التفكير المستقل، بعيداً عن كهنة آلهة آمون الذين لا هم لهم سوى تنفيذ أجندات الحكام وخدمة أهدافهم واستمرارهم بالتالي في الاستيلاء على مقدرات وخيرات شعوبهم، كل ذلك تحت شعارات وتبريرات نصية دينية ما انزل الله بها من سلطان، تجيز لهم فعل الموبقات وممارسة كافة أنواع الاضطهاد ضدَّهم، والادعاء أن الحاكم ممثل الله على الأرض ولا يجوز للرعاية بالتالي محاسبته قانونياً، أو تغييره بالوسائل الديمقراطية المتاحة، أو حتى خلعه بالإجماع و عن طريق ثورات سلمية منظمة ومؤثرة، كما حدث ويحدث في الكثير من الدول التي فصلت الدين عن السِّياسة منذ عشرات السنين، وهي اليوم تحقق قفزات تنموية وحضارية هائلة بالطبع. عميرة أيسر-كاتب جزائري