الدكتور / رمضان حسين الشيخ التطورات التكنولوجية المتسارعة أدت إلى وجود ثورة اتصالية ونظم معلوماتية اجتاحت معالمها جميع دول العالم خلال فترة قياسية من الزمن، بحيث شهدنا مع مطلع القرن الحادي والعشرين ظهور وميلاد شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة والتي من بينها شبكة "الفيسبوك"، التي تعتبر بمثابة نقلة نوعية في مجال الاتصال والتواصل على نطاق العالم بأكمله. إذ أصبح بإمكانك وبكل سهولة التواصل ومعرفة أخبار أصدقائك الموجودين في أي مكان وفي أي دولة على نطاق العالم بأكمله، ولو عُدنا عبر الذاكرة لنسترجع كيف كان التواصل قبل فترة زمنية قصيرة من الزمن، لوجدنا أن ما نعيشه اليوم هو بحد ذاته نقلة نوعية فريدة في مجال الاتصال والتواصل الاجتماعي، ولكن ما أريد أن أتطرق إليه عبر مقالي المتواضع هو مدى الاستخدام الصحيح لهذه الشبكة القيمة، ومدى التعامل معها بالطريقة السليمة، وذلك لتفادي التأثيرات السلبية الناتجة عنها، بحيث إن لكل مجتمع ثقافته وعاداته وتقاليده وقيمه التي تختلف من مجتمع لآخر، بحيث يجب أن يكون أفراد المجتمع على درجة من الوعي لكي تتم عملية الاستفادة من خدمات هذه الشبكة على أفضل وجه ممكن. حقاً لسنوات طويلة، مارس الإعلام بمختلف أشكاله ومستوياته، كثيراً من الأدوار والوظائف، واستطاع بما يملك من قوى وأذرع أن يُهيمن على كثير من تفاصيل حياتنا الصغيرة والكبيرة. ويبدو أن تلك المقولة الشهيرة: "السلطة الرابعة" التي تضع الإعلام كنتيجة تراتبية بعد السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، لم تعد وصفاً دقيقاً ومناسباً للإعلام، خاصة في نسخته الجديدة التي ظهرت ملامحها الحقيقية في بداية الألفية الثالثة من عمر التاريخ الإنساني؛ إذ تحوّل الإعلام من مجرد ناقل للأخبار والأحداث، إلى مساهم فاعل في تشكيل وصياغة الرأي العام، إلى أن أصبح الآن منظومة كبرى تقود العالم. إن وسائل التواصل الاجتماعي بأذرعها وأسلحتها الإلكترونية المذهلة، وبشبكاتها ومنصاتها المثيرة، تحوّلت إلى نمط عيش وأسلوب حياة. "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستجرام" و"سناب شات" و"واتساب" و"يوتيوب".... وغيرها من الوسائل والبرامج والتطبيقات الجديدة، هي التي تقود حياة المجتمعات بأفرادها ومكوناتها؛ لأنها عوالم وسماوات من العلم والمعرفة والتقنية والمتعة والبهجة والفن والأدب والسحر والدهشة. بل أهم ما يُميز وسائل التواصل الاجتماعي بكل شبكاتها هو قدرتها الفائقة على الانتشار في كل الفضاءات والمساحات بكل سرعة وسهولة، ومساهمتها الفاعلة في تقريب المسافات والقناعات بين مختلف الجهات والتعبيرات، ورغبتها الدائمة في التكيف والتطور أمام كل المتغيرات والتحولات. حقاً، لو رجع بنا الزمان للوراء قليلًا لأدركنا قيمة التواصل الاجتماعي الحقيقي والفعلي ما قبل الفيسبوك، فقديمًا كل شخص كان يتمتع بشخصيته الحقيقية المعروفة والمألوفة للجميع، وكان التواصل عبر الزيارات واللقاءات الاجتماعية المليئة بالمشاعر الحقيقية غير المصطنعة. لكن اليوم الفيسبوك يصنع منا شخصيات بوجوه متعددة لا تعلم إن كانت مشاعرها وتفاعلاتها عبره حقيقية صادقة أم أنها مصطنعة لأجل اعتبارات مختلفة، ولعلك في الآونة الأخيرة شاهدت بنفسك كيف يقوم العديد من الأصدقاء عبر تلك الشبكة بإبراز أدق تفاصيل أعمالهم اليومية سواء بقصد أو بدون قصد، ومنها تصوير ونشر الطعام قبل أكله، وأيضًا النشر أثناء ممارسة العبادات والشعائر الدينية المختلفة، والنشر للخلافات الشخصية بين الأصدقاء وكتابة كلمة "مقصودة" والنشر للخلافات الأسرية بين الزوجين، فأصبحت تلك الشبكة تطرق أبواب بيوتنا لتدخلها دون استئذان لتعرّي وتكشف أسرارنا وخصوصياتنا دون أن نعلم ذلك، وهذا كان له انعكاس واضح في افتعال العديد من المشكلات الاجتماعية المتراكمة. لا أحد يُنكر مدى تعلقه بتلك الشبكة الاجتماعية، ولا أحد يُنكر أن الفيسبوك أصبح يتغلل في حياتنا اليومية، ويسرق من أوقاتنا ساعات كثيرة لا نعلم كيف تمضي بهذه السرعة الهائلة، لذلك أصبحت حياتنا الواقعية أسيرة عبر تلك الشبكة، حتى وصل بنا الحال إلى تأدية واجباتنا الاجتماعية مثل التهنئة بالسلامة، ومواساة المريض، وتعزية المتوفى، والمباركة بالنجاح، كل ذلك عبر تلك الشبكة، وكأننا تناسينا حياتنا الحقيقية، والأمر الذي يثير الدهشة أننا أصبحنا نعيش غرباء عن بعضنا البعض داخل الأسرة الواحدة، أصبحنا ننطوي على أنفسنا دون الاختلاط والتواصل مع العالم الخارجي، أصبحنا نجلس في مكان واحد ولكن عيوننا وأذهاننا تترقب وترصد وتتفاعل مع تلك الشبكة. ولتأكيد ما سبق، لعلك تلاحظ أنه عندما يأتي عليك ضيوف لأجل "صلة الرحم" أن أول شيء يطلبوه منك هو الرقم السري لشبكة ال Wi- Fi، فهذه الشبكة "الفيسبوك" صحيح أنها وُجدت في الأصل لأجل التواصل الاجتماعي ولكن الاستخدام المفرط لها جعل منها شبكة للانقطاع الاجتماعي. جعلنا الفيسبوك نجلس سوياً بدون أن نكون سوياً، طالما اندمج كل منا في حياته الثانية (حياة الفيسبوك). حتى المشاعر الإنسانية العميقة استبدلت استبدالاً مثيراً ومحبطاً على صفحات الفيسبوك، فالابتسامة التي تسعدك من قريب أو صديق أو طفل بريء تحولت إلى فقاعة صفراء وخط منحني (الدائرة الصفراء) وتكاتف الآراء وتفاعل وجهات النظر استبدل بيد زرقاء، إما التعبير عن الحب فقد اختزل إلى قلب أحمر، بل إن القبلة، أجمل وسائل التعبير الحسي عن المشاعر الإنسانية تحولت إلى شفتين ورديتين. لا أنكر أبداً قيمة الفيسبوك وأنا شخصياً أدين له بنشر أفكاري وكتاباتي، ولكنني في الوقت ذاته لن أسمح له أبداً أن يجعل حياتي الثانية (حياة الفيسبوك) هي حياتي الأولى (حياتي الإنسانية). أرجوكم لا تتنازلوا أبداً عن حياتكم الأولى فلا شيء على الفيسبوك يعوض الابتسامة الحقيقية، أو سماع كلمات الحب تصدر من إنسان يعني لك كل شيء، أو تلقي قبلة من أب أو أم أو بنت أو ابن أو زوجة تعبر عن مشاعر راقية دافئة متدفقة صادقة غير مستترة وراء ضبابيات الفيسبوك. عزيزي القارئ.. كثيرة هي هبات وفوائد هذه الوسائل والشبكات، تماماً كما هي كثيرة سلبياتها ومضارها، وتلك هي طبيعة الأشياء ذات حدين، ولكن أجملها على الإطلاق، هي قدرتها الساحرة على إغوائنا لنسقط بكل حب واندفاع في اتجاه بساطتنا وعفويتنا. وهذه "الشبكات الحياتية"، جعلتنا نُشبه أنفسنا، ونتصرف على سجيتنا، ونعيش حياتنا كما يحلو لنا. هي باختصار، حكايتنا البسيطة التي نكتبها ونصورها ونرسلها كل لحظة لمن نُحب. هي باختصار، صندوق أحلامنا الذي ندس فيه حماقاتنا وضحكاتنا وعفويتنا، بعد أن أزلنا منه كل تلك العُقَد والمخاوف والهواجس. وفي دراسة نشرتها صحيفة الإندبندنت البريطانية أجريت على عينة تجاوزت الألف شخص، خلصت الدراسة إلى تعرض مستخدمي الفيسبوك لمستويات عالية من القلق والغيرة والحزن الذي وصل إلى درجة الاكتئاب، وأضافت دراسة أخرى نقص ساعات النوم والسمنة وخطر التعرض للنوبات القلبية إلى لائحة السلبيات. وفي مقابل هذه التحويرات السلبية التي قد يتسبب فيها "الفيسبوك" لأعضائه، فهو يمنحهم ذاكرة قوية، هذا ما أقرته دراسة أجراها باحثون بجامعة كاليفورنيا عن تأثير "الفيسبوك" على الذاكرة، حيث تبين عبر عينة الدراسة أنهم يتذكرون جيدا البوستات التي قرأوها على ال News Feed حتى التافهة والمملة منها. ويعد علماء النفس استخدام الإنترنت أكثر من ساعتين يوميّاً حالةً من حالات الإدمان التي تحتاج إلى علاج، بحيث أن المدمن يفقد حياته بالكامل وينصهر داخل شاشة الإنترنت. وهو إدمان حقيقي تماماً كإدمان الكحوليات والمخدّرات، إذ إن الإدمان هو حالة يصل إليها الجسم حين يعتاد استخدام شيءٍ ما باستمرار وبشغف، فيتأثر الدماغ ويفرز الدوبامين "محفز عصبي" يصبح على إثره الإنسان نشط جدًا، ويفرز مادة السيريتونين "ويسمى هرمون السعادة" فيزيد من تعلق الإنسان وارتباطه بهذا الشيء. ومن علامات هذا الإدمان إلى جانب استخدامه أكثر من ساعتين يوميّاً، الاضطراب عند فقدان الإنترنت، وفقدان الواقعية، والتجرؤ على خطوط ما كنت تجرؤ على تخطيها سابقاً. ولكي نستطيع أن نحقق الاستفادة الكاملة من وسيلة الفيسبوك، ويكون استخدامنا لها استخداماً سليماً، يجب علينا أن ندرك أن حياتنا اليومية الواقعية أهم بكثير من حياتنا الافتراضية عبر شبكة الفيسبوك، ويجب علينا تأدية واجباتنا الاجتماعية على أكمل وجه ممكن ويكون دور شبكة الفيسبوك دوراً تكميلياً للحياة الواقعية، وعلينا التمتع بقدر من الوعي الفكري والمسؤولية لتحديد ما الحد المسموح بنشره عبر تلك الشبكة لكي نتفادى التطرق والخوض في خصوصياتنا وأسرار حياتنا اليومية. لقد فقدنا فكرة الحياة بطبيعتها وبراءتها، وسيطر علينا هذا الإدمان، علينا فعلاً أن نستردّ أنفسنا من الفيسبوك وبسرعة، كي لا يأتي اليوم الذي ندرك فيه أننا خسرنا أكبر خسارة. وهذه العملية لا تحتاج أكثر من قوة شخصية، وقرار وتدرّج وانتظام، وقيادة.. أجل كن أنتَ من يقود الشاشة ولا تسمح لها أن تقودك من صفحة لصفحة، حدّد أنك مثلاً دخلت كي تبحث عن كذا وتتصفح كذا وتتحدث مع فلان وتسلّم على فلان، دون أن تدع للشاشة أن تشفط وقتك بأزرارها. استرد نفسك الآن، وحقق ذاتك، أجج مشاعرك، واصنع كينونتك الاجتماعية، تفاعل مع أهلك، لاعب الأطفال الصغار، مارس رياضاتك وهواياتك، أنجز، ثقّل عمرك، ولا تسمح بأن تضيع في غابات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وفي النهاية.. لا يسعني إلا أن أقول أنك أنت وحدك من تُحدد مدى استفادتك من الفيسبوك على القدر الذي تنظم به وقتك وأنت، وحدك الذي تستطيع أن تتحكم في سلوكياتك الواقعية قبل أن تعكسها وتترجمها عبر الحياة الافتراضية. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير الاداري والتنظيمي [email protected]