من أهم المشكلات التي يعانيها الإعلام المصري بمختلف وسائله - خاصة بعد الثورة وأجواء الحرية التي استغلها البعض- هى الخلط الشديد بين الخبر والرأي، مرة بصياغة الخبر كأنه رأى، ومرة بتقديم الرأي كأنه خبر! بحيث لم يعد يعرف المشاهد أو القارئ: هل الذي أمامه هو تعبير عن حدث وقع، أم عن رأى مطروح؟! ومن المعروف أن الإعلام يتكون من خبر ورأى؛ الخبر يبحث في ماذا حدث وكيف.. إلى غير ذلك من علامات الاستفهام التي تحاول تسليط الأضواء على الحقيقة. أما الرأي فهو يعتمد تصورًا واحدًا عن الحدث؛ ولذا يختلف الناس في آرائهم لأن كل واحد يرى الحدث ويفسره من زاويته هو وما يتوافر لديه من معلومات. وهذا الخلط الحاصل بين الخبر والرأي له نتائج كارثية؛ لأنه يؤدى إلى: أولاً: تشويه الحقائق، وثانيًا: تشويش القارئ أو المشاهد، وثالثًا: هو يعبر أيضًا عن نوع من عدم الثقة في القارئ، فكأن القارئ لن يهتدي إلى الحقيقة بمجرد الاكتفاء بذكر الحدث كما هو بالضبط، ورابعًا: هذا الخلط يعني فرض وصاية على المتلقي؛ لأن الرأي يحمل في مضمونه معنى النصيحة والتوجيه. وفي رأيى، فإن من أهم الأسباب وراء الارتباك الحاصل في الساحة الإعلامية المصرية الآن هو كثرة برامج (التوك شو) التي تحولت إلى منابر سياسية، بل إلى منصات للقضاء! وخرج فيها المذيع (أو المذيعة!!) من دور المحُاور الموضوعي إلى دور القاضي، وربما: الجلاَّد، لصالح رأس المال الذي يدير هذه القناة الفضائية أو تلك وربما يأتي الخلط بين الخبر والرأي بسبب الحرص على إيصال رسالة محددة، أو إثبات الذات، خاصة وسط هذا الكم الهائل في وسائل الإرسال (من صحافة وتلفزيون) التي يبدو المتلقي أمامها مندهشًا أو حائرًا! وقد يكون هذا التفسير له قدر من الصحة.. ويجب أن نثق في عقل المتلقي وقدرته على الفهم والتحليل والمقارنة.. لا أن نتعامل معه على طريقة (الأب الفاضي) الذي يقف لابنه بالمرصاد وعلى كل صغيرة وكبيرة ويقول له: افعل كذا ولا تفعل كذا.. ويمارس عليه التسلط والكبت طوال الوقت، مما يضعف شخصية الابن ويفقده النمو العقلي والتفتح الذهني والقدرة على التعامل مع المواقف، بعيدًا عن وصاية أبيه. ومن الطريف أن الأنظمة الديكتاتورية تتعامل بمنطق هذا (الأب الفاضي) مع الشعوب، ولا تتيح أمامها خيارات متعددة؛ لأنها ترى نفسها الأقدر على فهم الأمور ومعالجة القضايا والاختيار.. فلماذا يختار الشعب ويتعب نفسه طالما أن الحكومة تعمل له كل شيئ وتمارس بالنيابة عنه وضع القوانين والتشريعات؟! إن الصحافة الناجحة هي التي تلتزم ب (ميثاق الشرف الصحفي) فتذكر أولاً الأخبار بكل تفاصيلها المعتمدة على المصادر الموثوقة وشهادات العيان.. ثم تفتح الباب واسعًا أمام الآراء والتحليلات في الأعمدة وصفحات الرأي، مع الحرص على تقديم آراء متعددة. فالمعادلة الصحيحة: الخبر ثم الرأي.. لا العكس.. ولا الخلط بينهما.. وإذا كانوا في القانون يقولون: الحكم عنوان الحقيقة، ففي الإعلام: الخبر عنوان الحقيقة. لقد ثبت بخبرة التاريخ أن الصحافة الموجهة التي تقدم رأيًا واحدًا بطريقة فجة.. لا تجد قبولاً لدى المتلقي.. وتجربة الصحف الرسمية في مصر والعالم العربي خير دليل! صحيح أنه لا يوجد إعلام محايد أصلاً، ولا موضوعي بنسبة 100%؛ بمعنى أن أي وسيلة إعلام لابد أن يكون لها اتجاه ما تحاول أن تروج له وتدافع عنه، وهذا أمر يبدو طبيعيا ومنطقيًّا، لأنه ليس معقولاً أن ينشئ أحد وسيلة إعلام دون أن يكون ثمة هدف من ورائها. والمطلوب أن نفرق بين الحياد يةوالموضوعية والذاتية: * الحياد يةهى خرافة كبيرة، وهو يعنى الميوعة وعدم وضوح الرؤية، لأن أي إنسان- أو مؤسسة إعلامية- لابد أن يكون له رأى في المسائل المطروحة، بغض النظر عن صواب هذا الرأي؛ ولا يمكن أن يكون الإنسان حياديًّا أبدًا مهما حاول أن يُخفي رأيه المباشر. * والموضوعية تعنى أنك تستند إلى الحقائق والأرقام لا الأهواء، وتخاطب العقول بالحجج والبراهين، وأنك تحترم وجهات النظر الأخرى وتقدمها كما هي دون تشويهها أو الافتراء عليها.. لأن تجاوز الموضوعية يجعلنا نقع في شباك الدعاية، ويُحوِّل الإعلام إلى إعلان!! * أما الذاتية فهي من صفات الأديب؛ لأنه ينطلق في أعماله من مشاعره وأفكاره وتجاربه الخاصة، وقد يجنح إلى الخيال غير مرتبط بالواقع.. ولذلك الأعمال الأدبية ليست حجة في الاستدلال على الوقائع بقدر ما هي تسعى للترويج والدعاية للأفكار. والخلاصة أننا نحتاج إلى أن نقترب من (الموضوعية) بأكبر درجة ممكنة.. وإلى الأخبار الموثقة التي تضعنا في قلب الحدث وأبعاده، أكثر من حاجتنا إلى الرأي الذي يمارسه البعض بما يشبه الوصاية والديكتاتورية!