أتمني أن يصل الدين إلي أهل السياسة.. ولا يصل أهل الدين إلي السياسة .. فإن كنتم أهل دين فلا جدارة لكم بالسياسة .. وإن كنتم أهل سياسة فمن حقي أن لا اختاركم ولا جناح على ديني ..هذه مقولة شيخنا الجليل محمد متولى الشعراوى رحمة الله عليه .. أى كان يتمنى ان يكون دور رجال الدين هو جعل الدين سلوكا تلقائيا ينبع من داخل الناس دون التفكير فيه ودون ان يجبرهم عليه احد او حتى يذكرهم به ..اذا نجحوا فى ذلك فالجميع اذن يطبق الشريعه الاسلاميه كل فيما يخصه مادام يعرف ما له وما عليه وما هى الوسائل المشروعه للحفاظ على الحدود بين هذا وذاك .. لذلك حان الوقت للتفكر والتمعن ومراجعة جذرية من داخل الاسلام ومن مصدره القرآنى والنبوى للمفاهيم السياسية المنسوبة للإسلام .. خاصة ما يطرح على الساحة من قوى تسييس الدين في عصرنا هذا .. وهي مفاهيم لا تمت للإسلام بصلة .. فإن الحضارة الإسلامية كانت حضارة راقية ورائعة في العلم والفكر والعمران .. لكنها كانت تفتقر البعد السياسي الذى بدد الكثير من طاقاتها الحضارية .. وعندما ظهرضعف مؤسسة الدولة الرسمية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي .. لجأ الناس إلى التدين المفرط وهو الغلو الذي حذر منه القرآن الكريم " يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ".. أما إقامة الدولة الدينية فليس ثمة مقومات أو برنامج سياسي مكتمل لدى دعاتها وهم يستغلون الموجة الدينية السائدة الآن لكنهم لا يملكون الكفاءة اللازمة لإقامة الدولة .. فإن هذا الغلو الذي يشجعونه يسد ولن يؤدي إلى قيامها .. وكما أجمع باحثون مسلمون من مختلف الاتجاهات والاجتهادات .. فإن من أهم ما يلاحظ في الظاهرة الإسلامية أن الإسلام قرآناً وسنة قد أولى العقائد والعبادات والأخلاق اهتماماً مفصلاً ومحدداً إلى حد كبير .. بينما في الجانب السياسي كان ايجازه شديداً إلى درجة تحديد مبادئ في منتهى العمومية كالشورى والعدل بما يحتمل مختلف التأويلات ومختلف النظم السياسية التي أفرزتها التجارب الإنسانية .. وقد أخذ المسلمون الحديث النبوي الكريم الموثق " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " على محمل اتصاله بتأبير النخل فقط .. وهو فهم ضيق الواسع من مقولته عليه الصلاة والسلام .. وحصره في ظرف المناسبة اللحظية فشؤون الدنيا تأتي في مقدمتها شؤون السياسة .. ولا بد من أخذ الحديث النبوي على هذا المحمل فمن الطبيعي أن يكون الناس في كل زمان ومكان أعلم بشؤون سياستهم التي هي من شؤون دنياهم وهي الأهم لمصائرهم من تأبير النخل .. وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكاتب زعماء الدول يدعوهم للإسلام .. وكان همه الأكبر والوحيد قبولهم بأساس العقيدة الإسلامية مع بقاء الأمير في سلطته حسب نظام بلده دون البحث في كيفية إدارتها .. وهذا يعني أن عقيدة الإيمان هي الأصل في الإسلام .. وأن طبيعة النظام السياسي من اختيار أهل كل بلد .. وفي رسالة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين كانت العبارة المبدئية هى " فإني أدعوك إلى الإسلام .. فاسلم تسلم يجعل الله لك ما تحت يديك " وهذا تأصيل لمبدأ نشر الدعوة الاسلامية دون الخوض فى النظام السياسى للبلد .. والحكم في المصطلح القرآني والعربي الأصلي هو الحكمة وهو البصيرة العادلة .. وإذا اقتربنا بمعانيه من سلطات الحكم فهو سلطة القضاء وكان القاضي يسمى حاكماً كما ورد في أحاديث نبوية متواترة وكما فسر المفسرون المصطلح القرآني في قوله تعالى " وتدلوا بها إلى الحكام " أن المقصود هنا القضاة .. أما أصحاب السلطة السياسية فقد أطلق عليهم القرآن الكريم من منطلق المعنى العربي الأصلي الأمراء فقال أولو الأمر وتضمنت السنة النبوية مصطلح الأمير في مواضع عدة بهذا المعنى .. وتعارف المسلمون على تسمية القائد السياسي بأمير المؤمنين وهو الفهم السائد عند العرب في حينه .. ولنا فى صحيفة المدينة التي وضعها النبي الكريم عظة لأنها تمثل فكره السياسي عندما واجه مسألة السياسة في المدينةالمنورة .. فهي أول دستور في الإسلام وأول تعاقد سياسي بين المسلمين وغيرهم في نطاق الدولة الجامعة .. حيث نرى في الفكر السياسي النبوي تمييزاً واضحاً ومبدئياً بين المجتمع الديني الذي يضم المسلمين في دولة الرسول والمجتمع السياسي الذي يشمل بالإضافة إلى المسلمين .. اليهود وقبائلهم في المحيط المدني .. وقد ذكرت الصحيفة بالاسم تلك القبائل واعتبرتها أمة واحدة مع الجماعة الإسلامية لهم ما لها وعليهم ما عليها في شؤون الأمن والسياسة .. ولم يزايد أحد في حينه على النبي عندما أصدر الصحيفة أو الدستور الأول في الإسلام .. بالقول الذي نسمعه في مزايدات الحاضر ولم يكن القرآن دستورا فى ذلك الوقت لأنه كان يتنزل على الرسول ككتاب هداية للإنسانية جمعاء .. وليس كدستور لهذه الدولة أو تلك .. وعلينا أن نضيف أنه عندما خرقت تلك القبائل الدستور كان للنبي منها موقف آخر .. كأي خرق دستوري في أي زمان ومكان .. إن دراسة صحيفة المدينة وإبرازها في الوعي الإسلامي المعاصر كوثيقة تاريخية مسألة حيوية لتجديد شباب الفكر السياسي عند المسلمين .. كما أن إغفال هذا التعاقد السياسي من شأنه أن يضع الأمور في غير نصابها ويؤدي إلى تصورات خاطئة بشأن الصلة بين الديني والسياسي في الإسلام .. فالدولة في الإسلام دولة مدنية كما أكد المفكرين الإسلاميين أمثال الدكتور محمد سليم العوا والدكتور أحمد كمال أبو المجد ومن منطق فكر إمام النهضة الشيخ محمد عبده لأنها تهتدي بقيم الدين ومبادئه وهي ليست حكومة رجال الدين .. حيث لا رجال دين في الإسلام .. فالمسلمون كلهم يحملون هذه الصفة .. والفرق يكمن بين عالم في الدين ومن هو أقل علماً فلا دولة كهنوتية أو ثيوقراطية في الاسلام .. والسياسة مسألة تجريب فيها الخطأ وفيها الصواب .. أي أنها مسألة اجتهادية ظنية لا مسألة قطعية من مسائل الدين .