بعيداً عن باسم يوسف و" البرنامج " وردود أفعال مؤيدين ومعارضين، ذلك كله فروع من جذور لابد من العودة إليها لنفهم أكثر، وليس مهم بعدها أن نمدح أو نهاجم .. المهم أن نعرف حقيقة " البرنامج " الذى شغل المصريون طوال الأشهر الماضية، وهى بالمناسبة .. حقيقة لا تعنى موقفاً مسبقاً من القائمين على الفكرة المصرية .. أو بشكل أدق، الفكرة المقتبسة بالنص من تجربة أمريكية، وباسم يوسف نفسه يعترف بأن " البرنامج " ليس صناعة مصرية، لكنه كتالوج أمريكى حصرى وضعه إعلامى شهير اسمه " جون ستيوارت " ، صحيح أن مضمون " البرنامج " محلى بامتياز، لكن الأفكار واحدة فى الحالتين . جوناثان ستيورات ليبويتز هو ممثل وكاتب ومنتج أمريكى يهودى، وهو شخصية كوميدية معروفة عالمياً خصوصاً بعد أن أصبح الشخصية صاحبة الدور الأساسى فى برنامج " ذا دايلى شو " والذى يعتبر أحد أهم البرامج التابعة لقناة " كوميدى سنترال "، وستيوارت أصلاً ليس أمريكى لكن عائلته تعود أصولها بولندا وأوكرانيا وبيلاروسيا .. بل وتعود أصول أحد أجداده إلى منغوليا، وقد أنفصل أبويه وعمره 11 عاما وعاش مع والده، وقد تخرج عام 1984 فى جامعة ويليام بفيرجينيا ودرس الكيمياء ثم علم النفس، مشوار ستيوارت وتاريخه جديران بالإعجاب بدون اقتطاعهما من سياقهما الأمريكى والغربى .. واليهودى أيضاً، فليست كل الحوارات قابلة لعمليات " الدبلحة " ! . جون ستيوارت ..مذيع الأخبار المزيفة ! أثار تضامن الإعلامى الأمريكى الساخر جون ستيوارت مع باسم يوسف جدلاً، خاصة بعد وصف كثير من المحسوبين على الجماعات الإسلامية المختلفة لستيوارت بأنه يهودى مؤيد للسياسات الصهيونية العالمية، باسم رد على تلك الشائعات بتغريدة قصيرة على حسابه الشخصى بتويتر قائلاً ''لمن يعتقد أن صداقتى بجون ستيوارت اليهودى تهمة شوفوا حلقاته.. هاجم منع المآذن فى سويسرا ومنع مسجد منهاتن، وهاجم إسرائيل فى اللى بتعمله فى غزة''، وبعيداً عن كلام باسم .. فإن ستيوارت استضاف باسم يوسف فى إحدى حلقات برنامجه الأمريكى الأشهر ''ذا ديلى شو''، ثم قدم حلقة خاصة تضامنا مع باسم يوسف بعد استدعائه أمام النيابة للتحقيق معه فى اتهامه بازدراء الأديان وإهانة رئيس الجمهورية، لكن المشكلة هنا أن الاقتباس انحرف كثيراً عن الفكرة الأصلية عند ستيوارت الذى يعرف نفسه على أنه مجرد " كوميدى " وليس مذيع أخبار، كما أن برنامجه هو برنامج أخبار مزيفة، وتعلو مدخل استديو البرنامج بنيويورك، لافتة تقول "اتركوا الأخبار خارجاً"، إلا أن ذلك لم يمنع ما يقرب من 3.6 مليون مشاهد أمريكى من اعتبار برنامجه مصدرًا رئيسيًا للأخبار المحلية والدولية، ويتابعه نحو 20 مليون أمريكي، ويعرض برنامج ستيوارت يومياً من الإثنين إلى الخميس على قناة كوميدى سنترال، وبدأ تقديم برنامجه الناجح "ذا دايلى شو"، فى يناير 1999، ومدة برنامجه 22 دقيقة فقط لكنه منتشر جداً على الإنترنت، وقد اعتبرته مجلة Hollywood Reporter للعام الثالث على التوالى ضمن أهم إعلاميين والأكثر نفوذا وسيطرة حول العالم، وفاز بجائزة " جرامى " لأفضل ألبوم كوميدى عام 2005 عن كتابه المسموع " أمريكا: دليل المواطن إلى التقاعس الديمقراطى"، واختارته مجلة " التايم " فى هذا العام ضمن أكثر 100 شخصية تأثيرا فى العالم، وستيوارت يؤكد دائماً أنه لا يعمل بموضوعية أو حيادية، لكن إذا كان هذا معناه طبعاً التجاوز والجرأة الشديدة وهو مقبول فى المجتمع الأمريكى .. فإن كثيرين فى مصر اصابتهم الصدمة من هذه الجرأة فى النسخة المصرية، ويبدأ ستيوارت برنامجه الذى استضاف فيه رموزا بارزة مثل الرئيس الأمريكى الحالى باراك أوباما والأسبق بيل كلينتون ومشاهير ممثلى هوليوود ، بحوار يتبادل فيه الحديث مع عدة مراسلين ، ثم يخصص الفقرة الثانية لحوار مع شخصية مشهورة فى مجال السياسة أو الفن، والحقيقة أن برنامج "ذا دايلى شو"، الذى يقترن بإسم ستيوارت، بدأ فى عام 1996 مع المذيع الأمريكى كرايج كيلبورن، الذى اختلف مع الإدارة واضطر لترك البرنامج أواخر عام 1998، وتولى ستيوارت البرنامج من يناير 1999، وقدم حتى الآن أكثر من ألفى حلقة . باسم .. النسخة العربى ! كل شيء " فوتوكوبى " كما يقولون، بداية من تخصص باسم يوسف الطبى كجراح للقلب وأستاذ جامعى .. وأيضاً جون ستيوارت درس علم النفس، باسم كان طبيباً حتى تحول للإعلام بالصدفة خلال الثورة .. أيضاً ستيوارت عمل " ستاند آب كوميديان " وكاتبا للبرامج الكوميدية لسنوات طويلة، ومن يشاهد البرنامجين يلحظ أن الديكور واحد تقريباً بالخريطة الزرقاء فى الخلفية والأشعة الحمراء التى تومض بسرعة ومكان جلوس الجمهور وشكل المسرح عموماً، وأيضاً طريقة المونتاج وعرض الفيديوهات والصور .. المختلف هنا أن الإطار الذى تظهر فيه الصور التى يسخر منها باسم تكون على يمين الشاشة، أما ستيوارت فالإطار عنده على يساره، أما ملامح وتعبيرات باسم فهى مقتبسة بالكامل من ستيوارت .. بما فيها حتى انعقاد حاجبيه فى الصور وطريقة ضحكته وحركات يديه وسرعته فى قراءة " سكريبت " الحلقة، بل وفى أحيان كثيرة البدل وألوان الكرافتات، وطبعاً كثير من فقرات " البرنامج " مقتبسة بالنص من " ذا دايلى شو " خاصة فكرة المراسلين الهزليين، وباسم يوسف لا يهاجم إلا الإخوان والرئيس ويتجاهل المعارضة إلا فيما ندر .. وكذلك ستيوارت الذى صوت للرئيس أوباما المنتمى للحزب الديمقراطى فى 2008، وكان يوجه انتقادات فى عام 2005 إلى الجمهوريين والرئيس السابق جورج بوش، وقتها قال أن الأولى بالنقد هم من فى الحكم، وليس من هم خارجه، إذ كان الجمهوريون يسيطرون على الرئاسة والكونجرس، مضيفاً:"لو كان الديمقراطيون فى الحكم لكان من السهل انتقادهم"، وعاد مؤخراً لينتقد أوباما نفسه متمسكا بمبدأ مهاجمة أهل السلطة، لدرجة أن أشهر حلقات البرنامج وأكثرها مشاهدة كانت الحلقة التى غطى فيها خطاب تنصيب الرئيس الأمريكى، باراك أوباما، عام 2009 وكان يسخر منه بشدة، كما واجه انتقادات أخرى بضعف الحوارات السياسية التى يقدمها، لكن ستيوارت و"ديسك الأخبار المزيفة"، كما يسميه فريق عمله، أصروا على ألا يكون هناك التزامات أو مسئوليات صحفية لديهم إذ أنهم مجرد "كوميديين"، يعملون لصالح هدف واحد وهو تقديم برنامج مرح، وتماماً كما استضاف باسم يوسف الثلاثى أحمد فهمى وشيكو وهشام ماجد " سمير وشهير وبهير " وتبادل معهم الشتائم الساخرة لدرجة أنه قال لأحمد فهمى " أنت كلب السقا " فرد عليه " وأنت كلب ساويرس " فى وصلة هزار غريب بعض الشيء .. أيضاً ستيوارت معروف بانتقاده الساخر جداً حتى لضيوفه، لدرجة أنه فى أواخر العام الماضى انتقد النجم البريطانى هيو جرانت ووجه له شتائم جارحة فى وجوده ! وكما يقدم باسم يوسف استعراضات ساخرة فى برنامجه مثلما حدث فى أغنية " يا مرتضى يا مرتضى " .. سبقه ستيوارت فى فبراير الماضى وقدم مع وفريق عمله رقصة " هارلم شيك " بشكل مضحك داخل استديو البرنامج، وكما يقدم باسم نجوماً فى برنامجه من خلال مراسلين ومساعدين له يحاول دائماً ابرازهم .. أيضاً فعل ذلك ستيوارت ومن برنامجه خرج ستيفن كولبير أحد أشهر نجوم برامج الكوميديا الساخرة فى العالم حالياً، وطبعاً من أبرز نقاط التقاطع بين الاثنين أن كلاهما المذيع الأغلى فى بلده . نقاط فاصلة ! الفارق بينهما أن باسم عمره 39 عاماً .. أما ستيوارت فقد أكمل الخمسين ، وإذا كان باسم يعتبر ستيوارت هو مثله الأعلى فى الإعلام كما يبدو .. فإن ستيوارت نفسه يعتبر مثله الأعلى المخرج والممثل الأمريكى وودى آلان " دائم التأكيد فى أفلامه على الهوية اليهودية " والساخر الراحل جورج كارلين " يهودى كان يقدم فقرات كوميدية يسخر فيها من الأديان ومن أوائل الأشخاص الذين ادخلوا الألفاظ النابية لعروض الاستاند أب كوميدى " ومقدم البرامج الشهير ديفيد ليترمان " يهودى دائم السخرية فى برنامجه الشهير على شاشة CBS الأمريكية من كل شيء .. ومؤخراً جاهر بعلاقاته الخاصة على الهواء مباشرة " و لينى بروس " كوميدى يهودى معروف عالمياً بكتاب اسمه : كيف تتكلم بطريقة فاحشة وتؤثر فى الناس ؟ " و ريتشارد بريور " كوميدى أمريكى أسود أشتهر فى السبعينيات وحرق نصف جسده نتيجة تعاطيه للمخدرات "، لكن بعيداً عن كل ما سبق .. باسم يوسف حالة مصرية تشكلت من فكرة يبحث عنها كل شخص عاشق للحرية فى الكلمة والرأى .. لكن لكى تكتمل الحكاية الجميلة، لابد وأن يدرك أن لكل حرية حدوداً .. وإلا تصبح فوضى حتى ولو كانت تحت لافتة " للكبار فقط "، والفارق بين " السخرية " و"المسخرة " كبير عند المصريين، صحيح أن باسم وستيوارت يعتبران انفسهما " صوت " الملايين الغاضبة التى تبحث عن الحرية والعدالة ، لكن باسم نجح خلال عامين أن يصبح ظاهرة تستحق التأمل بعدما حصل على شعبية جارفة فى وقت قياسي، ولذلك إذا كان لقب " جون ستيوارت المصرى " انتشر فى العالم كله .. فمن الأفضل لنا جميعاً أن يظل " باسم يوسف المصرى " .. وفقط ! .