الشخصيةُ تمثِّلُ مركز النظام العصبى للرواية، إلى الدرجة التى دفعت بعضَ النقاد إلى تقديمها على الأحداث. وقد اشتُرطَ لها المشاركةُ فى الحدث «أما ما لا يشارك فى الحدث فلا ينتمى إلى الشخصيات بل يكون جزءًا من الوصف». الشخصيةُ الرئيسةُ هى أول ُ من يُقدّمُ فى الرواية، وأول من يوصفُ فيها، وتتسمُ - فى الغالب - بأنها: مركّبة، معقدة، دينامية، غامضة، ذاتُ دورٍ حاسم فى الحكى، مقنعة، حضورها مستمر على مسار العمل الروائى، محاطة بوفرة المعلومات عنها، شخصية متبوعةٌ، تتشكّلُ من خلال حدثٍ أو فعل. يُطالِعُنا «رجب كيرة» شخصيةً رئيسة تستقطبُ السردَ من بدايته، شاغلًا جملة البداية فى رواية «صخرة فى الأنفوشى» – حيثُ يصفُه الساردُ بقوله: «يستندُ إلى الدّرابزين الخشبى فى صعوده على السلالم الرخام». وهكذا كان فعلُ الاستنادِ هو أول ما قام به – وتمّ تقديمُه من خلاله – ومع متابعة هذه الشخصية نكتشفُ أنّ إسناد هذا الفعل إليه – فى أول ظهور له على لسان السارد – لم يكن اعتباطيا، بل كان لوصفِ جانبٍ سيكولوجى شديدِ الأهمية فى شخصيته؛ فهو - فى موضعٍ آخر من الرواية - يجلسُ فى المقهى «يسندُ رأسَه إلى زاوية الجدار»، وفى موضعٍ ثالثٍ ينتابُه دوارٌ يدفعُه إلى الاستنادِ إلى ما بجواره. رجب كيرة – على الصعيد السيكيولوجى – ذاتٌ إنسانيةٌ استبدّ بها الشعورُ بالوهنِ والشيخوخة، والانهزام أمام الزمن وأحداث الحياة. هذا ما يُبرزُه الساردُ – العليم – حيثُ يصفُه بأنه قد «تملكه الخواءُ»، و«خلت الدنيا من حوله»، و«الوحدةُ تُجالسُه فى التنقل بين شقته وبيوت الأبناء، حتى جلسائه فى المقهى، وفى صلاة الجمعة بأبى العباس...تناقصوا... تساقطوا، أو لأنه يؤثرُ الوحدةَ تُسلمه مشاعر قاهرة إلى شرودٍ لا يكادُ يفارقُه» وهو مُحاصرٌ بهاجس الفقد: فقدِ كلِّ من يحب. إذا توقفنا عند هذه الجوانب – وحدها – من شخصية رجب كيرة فلن نجدَ للصخرة – فى عنوان الرواية – أى دلالة؛ كما ستفتقدُ هذه الشخصية العمقَ والتعقيد اللازمين لها - كشخصية رئيسة - وسنصبح فى مواجهة شخصية نمطية أُحادية البعد، لا تتعدى ما نراه فى واقعنا من المُحالين على المعاش المترقّبين للموت - خلاصًا من الشعور بتراجع أدوارهم فى الحياة - لكنّ الكاتب كسرَ هذا التوقعَ حين طرحَ لشخصية رجب كيرة جانبًا أيديولوجيًا قفزَ به إلى مصاف الشخصيات متعددة الجوانب، بل قفز به إلى مصاف «الشخصية الإشكالية» التى تختزن فى تكوينها ووعيها – ولا وعيها – كثيرًا من عوامل التأزّم التى تتعلقُ بها كذاتٍ فردية وتتعلقُ أيضًا بسياقها المجتمعى – أو بالذات الجمعية – يتمثلُ هذا البعد فى تجربة المعتقل التى مرَّ بها رجب كيرة – أيام الحكم الناصرى – ومثَّلت له التجربة الكبرى التى غيّرت نظرته للمجتمع – ومطلق الحياة – رغم أنّها لم تستغرق أكثر من خمسة أيام. من خلال هذه المواصفات التكوينية لشخصية رجب كيرة يتضحُ لنا أنه شخصية متعددة الجوانب، ذات وضعية رمزية عميقة الدلالة فى تضافرها مع الذات المجتمعية وكشفها ملامح تأزّم هذه الذات، ومراحل هذا التأزم. فضلا عن ذلك فإن رجب كيرة شخصية مركزية تتوسطُ الحدث الدرامى، وتتشابك مع الشخصيات الأخرى – من خلال وضعيتها الاجتماعية – وتضطلع بإلقاء الضوء على طبيعة هذه الشخصيات وأدوارها فى المسار الدرامى، وذلك من خلال عمليتى الانسجام والتنافر، ومن خلال التناظر والتمرئى أيضا، حيثُ تبدو بعضُ هذه الشخصيات وكأنها امتدادٌ (دلالي) للوضعية الرمزية لرجب كيرة فى هذا الطرح الروائى. ولعلّ مدحت كيرة يستوجبُ وقفة تحليلية بموجب هذا الامتداد. مدحت كيرة: هو أحد أبناء رجب كيرة، وهو فى وصفِ أبيه «البسمةُ الصامتة»، وفى طرح السارد – عاشق للبحر، حاصل على ليسانس الحقوق، يعمل فى الوظيفة ذاتها التى عمل بها أبوه – مفتشا فى شركة الترام – كاتبٌ، لا يهمّهُ تصنيف كتابته إلى جنسٍ أدبى بعينه، ولا يهمّهُ النشر، ولا يكتبُ لقارى بعينه، بل يوقنُ أنه يكتبُ لقارى يتخيلُه و«لعله لم يوجد بعد»، يحبّ العزلة، يكره الانسياق خلف المجموع و«تغيظُه الآراء التى تعيدُ ما سبقَ قولُه» – وهو امتدادٌ لرجب كيرة فى هذا – ومن ثم انسحب من جلسات المقهى التقليدية مع أبيه، وأهملَ الصلاة خلفه فى المسجد – إشارة لخروجه على المجتمع التقليدى فى الفكر الدينى وغيره. مكتفٍ بذاته، تنحصر حركته الخارجية ما بين عمله، وشقته – التى استقلّ فيها عن أبيه وكدّسها بالكتب والأوراق – وجلسته فوق صخرة فى منتصف البحر فى الأنفوشى، يقرأ ويكتبُ ويتأمل الطيور والناس – ويرى كل شيء – حريصًا على مسافة تجعله يرى الحياة ولا يخوض شيئا منها، وكأنّ صخرته تعدّت حدود الموقع المكانى لتكون رمزًا لعموم موقفه من المجتمع ومن الوجود الإنسانى، وكأنها الموقفُ الفكرى والنفسى الذى يبرزُ كونه المتصل المنفصل، أو أنه اللا منتمى. ولشخصية مدحت أبعادٌ أخرى تتضح فى التناول النقدى من خلال قرينة العلاقات بينه وبين الشخصيات الأخرى، أو ما يُسمّى – عند تودروف – بال «التقابل»، رغم أن هذه العلاقات تتغير وتتبدّل كما أنها غاية فى التعقيد والتنوع. مدحت يرمزُ إلى جيله الذى ورثَ تأزّم جيل الآباء – ومن ثم ورث تأزّم مراحل الحكم السابقة على الثورة – وهو من بين الشخصيات التى رمزت إلى تصدّع الذات الجمعية فى مرحلتها الراهنة. يطرح الكاتبُ هذه الدلالة فى حوار مهم بين مدحت وأبيه، وذلك حينَ يطالبُه الأخيرُ بضرورة مواجهة ما يتعرض له من ظلمٍ – فى عمله – وضرورة أن يكون قويًّا؛ حيثُ يكشفُ الساردُ - على لسان مدحت - أسرار الضعف والخوف الممتدين فى نسغ الذات المجتمعية الراهنة شخصية راوية: هى ابنة رجب كيرة، تحملُ ملامح مصرية، وقدرا من الأنوثة، أمَّا على الصعيد النفسى فقد وصفها السارد بقوله: «ما تعيشُه ليس هو ما كانت تحلمُ به، ما تصورتهُ حياتها الزوجية» – وهى امتدادٌ لأبيها فى معاناة هذه المفارقة – فقد حلمت بالزواج من أكثر من نموذج من الشباب والرجال – منهم عبد الحليم حافظ وبعض الجيران ومدرس الفصل – وتكونَ لديها فتى أحلام طويل القامة وسيم أنيق، ثم تزوجت من الشيخ الأباصيرى، وهو فى عمر أبيها، ولديه زوجةٌ وأبناءٌ كبار يشغلون وظائفهم، وقد رضخت لرغبة أبيها فى الزواج منه؛ لأنه رآه تقيًّا ورعا – ولم ينتبه إلى أنه من المتطرفين دينيا - ولأنها تعدت الخامسة والثلاثين من العمر، ولأنها – وهذه هى الزاوية المهمة فى شخصيتها – تخشى من الوحدة – إذا مات أبوها – وتخشى من الاحتياج إلى الآخرين؛ ومن ثمّ فإنّ راوية تتماس مع رجب كيره من هذه الزوايا النفسية. لقد تزوجت راوية من الأباصيرى للسبب ذاته الذى دفع مروة للتزوج من رجب كيرة – الذى يكبرها بثلاثين عاما. وهكذا مثّلت الشخصيتان: راوية ومروة، وضعية انكسار المرأة فى ظلّ مجتمع مقهورٍ. ومما يستوجب الإشارة إليه أيضا؛ الانسجام فى المنطق الفنى للرواية فيما يخص التفاعل والعلاقات بين الشخصيات، من ذلك طرح شخصية رجب كيرة - فى عزلته وخوفه وضعفه - ضحية من ضحايا القهر السياسى، ودفعه إلى الانخراط فى الطريقة الشاذلية، وإلى التطوح على أرصفة أبى العباس وغيره من المساجد. لقد مثَّلَ رجب كيرة بعائلته خلية كاملة ووحدة رمزية للمجتمع المصرى فى طبقته المتوسطة التى تأثرت بمراحل الحكم السياسى التى عاصرها رجب كيرة، فقد مثَّل ابنه مدحت نموذج المثقف المنفصل المغترب، ومثل ابنه سعيد رجل الأعمال الوصولى الانتفاعى، وكانت راوية رمزا للمجتمع المنتهك. الصخرةُ – وفق هذا الطرح – دالةٌ رمزيةٌ مفعمة بكثيرٍ من الاحتمالات الدلالية، وقد أشار الكاتبُ إلى بعض هذه الدلالات على لسان الشخصيات، فالصخرةُ هى العزلة، وهى محاولة الخلاص، ولذلك يطرحُ الكاتبُ لكل شخصية صخرةً يستعينُ بها على واقعه. على صعيدٍ آخر، طرحَ الكاتبُ هذه الصخرة رمزًا لمصر، وذلك حين جعلها فى وضعية مكانية تطلّ على المشاهد التى تلخصُ المجتمع كله: الكلية البحرية، قصر الثقافة، مئذنة أبى العباس، سراى رأس التين، البيوت والمنازل. وهكذا بدت هذه الصخرة صخرةً فى قلب الذات الجمعية، تتعدى حدودها المكانية – فى الأنفوشى – لتكون موقعًا يطلّ على ملامح الذات المجتمعية، موقعًا للتأمل والرؤى والنقد، والحدوس والكشوف والنذير. أمَّا الكاتب الروائى – الأستاذ محمد جبريل – فهو – ككل كاتبٍ – يتمرأى من خلال أحد شخصياته – وأفترضُ أنه تقاسم أحداث هذه الرواية مع شخصياته من خلال حلوله فى شخصية مدحت كيرة الذى طُرح – فى الرواية – كاتبًا يطرح رؤاه حول الكتابة والوجود والقارى المتخيل والموت. وهكذا لم يكتف الكاتبُ بإدارة الأحداث عبر شخصياته الروائية، بل اندفع للمشاركة فى هذه الأحداث – عبر امتداده فى إحدى الشخصيات – لينتقل إلى حيز الاشتباك داخل الفعل الدرامى.