ممثل من لحم ودم مع ممثل مصنوع من الخشب والورق إلي جوار عناصر الطبيعة فى محاولة لتجسيد لحظات الخوف من فناء الحياة بعد كارثة المناخ العالمية بمصاحبة الغناء الأوبرالى والموسيقى والشعر، فى أغنية للتراب أو رثاء العالم حيث تلتقى مجموعة من الفنون وتتخطى الحواجز الفنية التى ليس فقط تفصل الأشكال التمثيلية عن بعضها »الدمى والممثل« بل هذا المزيج المدهش من الشعر والغناء الأوبرالى والدمى والبشر لخلق مساحة حرة للإبداع، فلا يخلو مشاركة العرائس فى العرض الذى حمل اسم « تراب » من دلالة عميقة حيث المواجهة الحتمية فى ظل هذه الكارثة بين الإنسان والجماد / الدمى. يقدم العرض على مدى ساعة حواراً عميقاً بين عناصر الطبيعة بما فيها الإنسان على خشبة المسرح من خلال مشهد بصرى ثرى وعميق، ودون شك لايمكن إغفال دلالة العنوان الميتافيزيقية حول الإنسان الذى جاء من التراب وسيعود إليه، ففكرة الفناء تتردد فى كل مفردات العرض وخاصة العرائس التى تجسد رد فعل الإنسان أو الحالة النفسية فى مرحلة نهاية العالم فى عرض يجمع بين الأداء المسرحى والغناء الأوبرالى ومسرح العرائس، يجمع بين البشر والجماد وعناصر الطبيعة التى تلعب دور البطولة مثل القمر والظلال، واختيار مجموعة من الشخصيات تجسدها «الدمى» الأذرع والأقدام فى بداية العرض والتى تخرج من تابوت سيكون له دور كبير ومؤثر مع الشخصيات الأخرى، الأبن، رجل الدين، الأم، تاجر الخردة، الجندى. وكل شخصية سيكون لها مسرحها الخاص وتجسد دلالة مهمة فى هذه الحياة التى أوشكت على الفناء مع القمر والظلال وشجرة معرفة الخير والشر، حيث يبدأ العرض الذى يطرح مجموعة من الأسئلة الميتافيزيقية حول الموت ومصير العالم من فضاء مسرحى معتم إلا من بقعة ضوء على صوت سوبرانو لسيدة فى ملابس بيضاء تقبع فى كرسى طويل أشبه ببرج مراقبة سيكون له دور فيما بعد مع الجندى كفضاء للمعركة، تغنى السيدة عن الموت والإنسان وكأنها تتأمل أو تنتظر الخراب الذى ينتظر العالم من هذا البرج، ليتردد فى فضاء هذه اللعبة حوار بين القمر والظلال، يقول القمر: أنا ثقب فى قلب الليل، أسبح فى طريقى، أنا ملعقة من الفضة، وترد الظلال مخاطبة القمر: استمر فى لعبة التخمين وأغمر الليل بنورك.. أفسحوا الطريق للظلال سوف تأتى بعتمة الليل «ليخرج من خلف الحاجز محرك العرائس الممثل الذى سوف يتماهى مع هذه الدمى ليقترب من الشجرة التى هى أقرب إلى شجرة معرفة الخير والشر ولا يمكن تجاهل هذه الدلالة ليرفع الغطاء عن تابوت وقبل أن يستعرض مع الفتاة دمى صغيرة لبشر ويحاورها نستمع إلى صوت القمر والظلال فى جملة محورية تعبر عن فلسفة العرض سوف تتردد كثيرا حول المصير المحتوم للبشرية. ما حدثَ هنا سيحدثُ هناك/ما حدثَ هنا يحدثُ فى كل مكان /ما حدثَ قبلا يحدثُ الآن / ما حدثَ قبلا سيحدثُ لا مُحال» الكلمات التى تجسد عجز الإنسان عن مواجهة الموت أو قدرته على مقاومة الفناء، فالأمر لا يتعلق بكارثة بيئية فهذا البناء السطحى، أما البنيية العميقة فهى فكرة الفناء، والموت الذى يطارد الإنسان منذ بدء الخليقة. يستعرض محرك الدمى الجثثث / العرائس.. «فهذا الرجل قفز من المركب، كان من أوائل من قفزوا وهذا قد أصابه الجفاف ومات ببطء من العطش / والثالث قتل نفسه بعد أن فقد ابنته/ والرابع شرب الماء وغرق فى التيار وهكذا ،،،، » وكأنه يستعرض مصير البشرية وتاريخها المحكوم بالفناء من هذا الصندوق ثم يستمر العرض فى تجسيد عناصر الحياة مع مجموعة من الشخصيات / الدمى وعناصر الطبيعة فهنا ليس فقط العلاقة بين الإنسان والجماد / الدمى بين أى بين الروح والمادة والذى يعطى للمفاهيم دلالتها مثل الوجود / الزوال، الموت، الحياة فهناك أيضا عناصر الطبيعة، حيث تحولت خشبة المسرح إلى صورة حية من هذا العالم من خلال مجموعة الدمى التى سوف تجسد حيوات وعوالم مختلفة، الدمى بكل دلالتها كحالة بين الموت والحياة، بين الأحياء والموتى، مابين المقدس والدينيوى، مابين الآلهة والبشر وهذا ما حققه وجود الدمى فى هذا العرض الذى لا يطرح أسئلة وقضايا البشر فقط بل كل عناصر الطبيعة. فيكون للشخصيات الرئيسية مسرحها الخاص فى تجسيد نهاية العالم من خلال الدمى ولكل منها حكاية يستعرض الممثل محرك الدمى مأساة هذه الشخصيات التى تؤدى دورها العرائس ولكل شخصية صفات وخصائص فالأبن يخاف من الألوان «اللعنة على العنف بجنونه وكل ألوان أطيافة» أما الأم تنعى ابنها «انتظرتك أسابيع على التراب، سألت عنك طبقات الصدأ» فهذه الشخصيات بمثابة حبكات ثانوية تجسد فى النهاية الحبكة الرئيسية التى تجسد فى بنائها العميق فكرة الموت والفناء! تدور الأحداث فى يوم واحد هو زمن الحدث ونهاية العالم فهناك ثلاثة فواصل، صباحاً فترة الإفطار حيث يتردد الصوت فى فضاء الأحداث ليتلو أنباء الكارثة «صباح الخير. لم تسفر الجهود المشتركة التى بذلها كبار العلماء والمهندسين ورجال الدين عن أى نتيجة للأسف الشديد. الموت هو القدر الذى كُتبّ علينا جميعا... وقَبلَه سوف نمرّ بمعاناة لا تصدّق ولا يمكن تفاديها.ننصحكم بالبقاء فى منازلكم، ضعوا المتاريس على الأبواب والنوافذ لحمايتكم من العصابات التى استولت على مدننا وعاثت فيها فسادا» فالعالم ينهار وهنا تظهر دمية الكاهن رجل الدين فى حوار عنيف وقاس يختتمه بهذه الكلمات «من أرسى تقاليد الذبح البطىء؟ من حوّل المدينة إلى تراب؟ حياتنا تحتاج إلى حفلة، قِفوا جميعا لكى اقوم بتزويج الموتى، فى أرض اللعنة الأبدية» رجل الدين سوف يكون مسرحه إلى جوار الشجرة التى على يسار المسرح، شجرة معرفة الخير والشر، يحاول أن يدق جرس فى يده، والجرس فى يد الجمهور أيضاً! ربما يحاول إنقاذ العالم يقرع الجرس، ومعه الجمهور ثم يتوارى،ليصدح النداء الثانى وتحية من فترة الظهيرة تحذر من وصول الموجات العنيفة إلى المنطقة وإننا قد أوشكنا على الدخول فى مرحلة لا تنتهى من النوم الهادئ وهنا سوف نستمع إلى قصيدة رثاء من الجمال الذى دمره أهل الأرض «والآن وقد انتهت الحرب، من يمنحنى أنا الراحة؟ أحلام المستقبل والبيت والأطفال قد تلاشت بقايا الأمل غاصت فى أعماق البحر، فى آخر الأمر تركونى بين الحياة والموت وبصقوا على وجهي/ضحكوا وهم يعاينون ذلك السقوط والعار بلا حدود/وعرضوا أن يدفعوا لى أجرا» وهنا سوف تكون السخرية العميقة مما يحدث فى هذا العالم لتظهر دمية تاجر الخردة، وكأنه سوف يشترى ماتبقى من ركام العالم «من يريد أن يتاجر؟ قلبى مقابل كُمّ قميصك! سيدقّ فى كل لحظة تتجرأ فيها وتؤمن بفكرة/من يريد المقايضة؟ / مللت إلى حدّ الموت من سماع أغنيتها/ وبمناسبة الموت، تعطينى شوكتك مقابل قطعة من لحمى؟» أما الجندى الضائع فسوف يصرخ إلى أين أسير وماذا فعلت؟ ليتردد صوت التحذير الأخير لفترة ماقبل النوم يدعو للتأمل الروحانى وينصح الجميع أن يتنفسوا وكأن كل نفس هو الأخير، فقط احتضنوا أحباكم فهذا أفضل طريق لانتظار الموت، وهنا سوف يكون الظلام الحالك فى أغنية الأم، التى بدأت المشهد الأم أو الكرة الأرضية «الأشجار سوداء وعمياء، والنخل تاه عن الطريق، الطيور اختفت ولكن الوباء يرفض أن يرحل ». لقد استطاع العرض الذى يمزج بين المسرح والأوبرا وعروض العرائس أن يطرح مجموعة من الأسئلة الميتافيزيقية من خلال جماليات المشهد البصرى بصياغة شعرية كان فيها للدمى الكلمة العليا فى بيان العلاقة بين الإنسان وواقع حياته! ناهيك عن علاقة العرائس بالموت والبعث فى التراث الشعبى والطقوس الدينية، ليؤكد أن العرائس على خشبة المسرح حالة شعرية وأيضاً وسيلة للتوصل إلى شكل مسرحى يقوم على الآلية والتجريد وبالتالى وسيلة هامة لتحريض الخيال، وخاصة حين تكون بطلاً رئسيا فى عرض يتساءل عن مصير العالم حين يجتاحه وباء مدمر، وبالتالى تكون فكرة الموت قوام البنية العميقة للعرض بكل مفرداته. عرض «تراب» من الدنمارك عُرض فى مهرجان «دى كاف أو الفنون المعاصرة الذى يديره المخرج المسرحى أحمد العطار من إنتاج سوفلانك فيورى وت» من إخراج جسبر بيدرس، موسيقى بيتر موللر، كلمات نيل كاردينال.