في يوم 5 مارس 1919 بعث سير شيتام برقية سرية للورد كيرزون لتصلهم يوم 7 منه. منذ أرسالي لبرقيتي نمرة 333 بتاريخ 2 مارس قمت بمقابلات عديدة مع السلطان والوزراء الذين ذكرتهم من قبل وقد أصبح الآن واضحا أن تكوين حكومة لها مركز وسمعة تكون لها فائدتها لنا في الموقف الحالي- أصبح أمرا يعتمد علي قبول ثروت للمنصب الوزاري. لايمكن لسري وهبه قبول المنصب بدونه. ولثروت مؤهلاته للزعامة نسبة لنفوذه في دنيا القانون وتفهمه للمسائل التي يجب مواجهتها وهو يفهم ويوافق علي سياستنا. والسلطان ينصح بأن تقدم له رئاسة الوزارة وتكوين وزارة تعرض لموافقتك كانت مدار بحث ولكن المجهودات التي بذلت للتغلب علي أحجام ثروت عن تحمل المسئولية تحت هذه الظروف قد باءت بالفشل حتي هذا الحين. وبلاشك فانه تعرض لضغط من الوطنيين وهو مازال شابا يمكنه الانتظار لفرصة أحسن بل أنه أشار علي بالتوصية علي سيطرة بريطانية مباشرة للإدارة تحت ظل القانون العسكري لمدة طويلة لنبرهن للوطنيين أنهم غير قادرين لانجاز ما وعدوا به. وفي اليوم التالي (6 مارس) بعث شييتام برقية للندن وصلت في نفس اليوم: »كان قبول استقالة رشدي باشا صدمة عنيفة لسعد زغلول الذي كان يعتقد أنه وصحبه سيسمح لهم أكيد بالسفر لأوروبا للمطالبة بالاستقلال علي ما يبدو وهو الآن يحاول الوقوف في سبيل تكوين حكومة جديدة قد تحط من شأن حزبه، أصبح الأمر واضحا بأن السياسيين الذين يمكنهم قبول المنصب عدلوا عن ذلك نتيجة تهديدات لأرواحهم. وقام سعد بعمل محدد يرمي إلي تهديد السلطان واثنائه عن تعاونه الحالي معنا من أجل تكوين مجلس للوزراء. ففي يوم 3 مارس قدم سعد لسراي عابدين ومعه عدد من اتباعه من أعضاء وفده التأسيسي ما عدا شخصين. وعندما لم يسمح لهم بالدخول ترك عريضة ممضاة للسلطان ضد مشورة الوكالة البريطانية وتحتوي علي تهديدات ضد عظمته عليها قناع خفيف من الولاء إذا ما استمر في مشاركة لتكوين وزارة«. وقيل لي إن لهجة ولغة العريضة لاتبرز مقاضاته كجريمة ضد السلطان في المحاكم المصرية وهناك عقبات فنية في سبيل إدانته لنفس الجريمة بواسطة المحاكم العسكرية تحت الاعلان المعمول به حاليا. ومع ذلك لا نستطيع أن نغمض أعيننا عن حملة التهديد التي ترمي إلي الوقوف في سبيل تكوين حكومة مصرية لتقوم بإدارة مصر تحت ظل الحماية في أوضاعها العادية. ولدي من المعلومات الأكيدة أن سعد يوعز لهيئة المحامين الوطنية وهي معقله الحصين الذي يؤيده لتوجيه عريضة أخري وقحة للسلطان وبتعطيل العمل في المحاكم المصرية باضراب المحامين. فاذا سمحنا لهذه الإجراءات بالاستمرار سننتظر مؤتمرات توجه ضد نظم الخدمات الحكومية وتزداد صعوباتنا لايجاد حكومة ذات كفاءة. بالنسبة لهذه الاعتبارات طلبت من قائد القوات في مصر ليرسل لسعد وأتباعه المعروفين ليوضح لهم في لهجة جادة أن القالب الذي اتخذه هياجهم هذا يتعارض مع المصالح العسكرية. ولكن هذا الانذار لايكفي ليقلع الزعماء الوطنيون عن سياسة التهديدات والمؤامرات السرية. ولقد هزت عبارات العريضة السلطان والي الأمة وعظمته وجه لي نداء جادا لحمايته من مزيد من الإهانات. وقد استشرت المستشارين الرئيسيين الذين اتفقوا معي بأن الإجراء الواضح الذي يجب اتخاذه هو اعتقال سعد ونفيه خارج مصر ويستحسن إما في الهند أو سيلان ومضي وقت طويل لسعد لم يستمع فيه لصوت العقل ويقضي وقته في المقامرة. وقد وصلت حركته للنقطة التي يجب أن يلجأ بعدها لمزيد من الطرق العنيفة ليتمكن من الاحتفال بقبضته علي طبقة المثقفين والطبقة المعتدلة والعاقلة من المصريين تصيبها الدهشة من سماحنا لهذه الحركة بالاستمرار هذه المدة دون أن نوقفها عند حد. قد يكون من سوء الطالع أن أضطر لطلب إزالة سياسي مهيج في الوقت الحاضر ولكن صفات سعد في المكر والدعاية أشد خطرا من الذين اعتقلوا ونفوا إلي مالطة في أول الحرب. أقترح القاء القبض عليه حالا ونفيه. ومن أجل مركز السلطان وهي ذو مصلحة سياسية لنا أطلب قرارا بأسرع ما يمكن. تتحدث الوثيقة عن نفسها ويظهر لنا بوضوح أن عريضة سعد للسلطان هي التي أوصلت الأزمة إلي هذا الموقف الذي لم ير شيتام بعده إلا التوصية بالقبض والنفي حماية للسلطان والنظام الحكومي في مصر تحت ظل الحماية البريطانية. ماذا حدث بعد ذلك..؟ دون سير وسيتام تفصيلات الاحداث بعد ذلك في رسالة كتبها للورد كيرزون في يوم 22 مارس: تسلمت برقيتك نمرة 309 بتاريخ 7 مارس أثناء الليل وفي 8 منه، طلبت من الميجور جنرال واتسون القائد العام للقوات في مصر إلقاء القبض بدون تأخير ما أمكن علي زعماء الهياج المذكورين بعد وأرسالهم تحت الحراسة منفيين إلي مالطة وهم: سعد زغلول باشا واسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا، تم القبض علي هؤلاء بدون حادث بعد الظهر وقضي السجناء ليلتهم في قشلاقات قصر النيل ووضعوا في سيارات مقفولة للقطار الذي يغادر القاهرة لبورسعيد الساعة الحادية عشرة في صباح اليوم التالي 9 مارس ونقلوا إلي ظهر السفينة كاليدونيا وقد أبحرت في مساء نفس اليوم. والأزمة السياسية استمرت إلي الآن نحو أربعة أشهر علي وجه التقريب ومن المحتم انها أحدثت اهتزازات في عقول الطبقة المتعلمة بين سكان القاهرة وخلقت شعورا عاما بعدم الاستقرار. وعندما اتخذ أخيرا إجراء محدد ينتظر اظهار شعور من العداء. وكان من الطبيعي أن يترجم هذا الشعور في قالب مظاهرات من الطلبة لان سعد زغلول كان محبوبا منهم. ففي صباح يوم السبت تجمع طلبة الكليات العليا وهي الحقوق والزراعة والهندسة والتجارة وقاموا بمظاهرات صاخبة ودخلوا في مدرسة الطب وأرغموا الطلبة للانضمام إليهم. ويجب علي أن أذكر انه اثناء هذا الحادث ضرب دكتور كيتنج مدير مدرسة الطب ومستشفي القصر العيني ولكن لم يصب بأذي. تمكن البوليس في تفريق هذه المظاهرة بكل صعوبة وألقي القبض علي 310 من المتظاهرين. وطبيعة الحوادث في يوم 9 مارس أظهرت ضرورة طلب مساعدة عسكرية للبوليس ولذلك اتخذ قائد القوات في مصر الترتيبات لتكون قوات الجيش مستعدة صبيحة يوم 10 لتحريكهم في لواري لمركز الشغب في الحالات التي يتطلب فيها بوليس المدينة النجدة «بدأ الشغب مبكرا والوحدات الراكبة من بوليس القاهرة صادفتهم صعوبات عند محاولتهم إيقاف طلبة الأزهر الذين انضموا إلي الطلبة الاخرين الذين حضروا إلي وسط المدينة. اضطر قمندان البوليس ليطلب النجدة وفي الساعة التاسعة صباحا تسلم الجنرال واتسون أمر المدينة. اتخذ الإجراءات العاجلة لحماية الوكالة البريطانية والكباري علي النيل والنقاط الأخري الهامة. واتخذت مواقع للبوليس العسكري في بعض الزوايا والاركان برشاشاتها ومدافعها. وانضم أوباش المدينة للطلبة وحدثت درجة كبيرة من الهياج انحصر معظمه في تحطيم الزجاج وقلع الأشجار في الحدائق الخاصة. وقامت الغوغاء بتحطيم التراموايات في وسط المدينة وتوقفت حركتها بتاتا بعد الظهر». اضطر الجنود إلي إطلاق النيران مما أحدث بعض الإصابات القاتلة وهذا الهياج في المساء وكانت الليلة هادئة. وفي اليوم التالي (11 مارس) ابتدأ الشغب مرة أخري في أنحاء عديدة من القاهرة. ففي ساعة مبكرة تجمع المشاغبون ومعظمهم من طلبة الأزهر والسفلة والاوباش في الأجزاء الوسطي في ميدان المحطة وبعد إطلاق بعض العبارات النارية تفرقت الغوغاء ببعض الضحايا. قبض علي واحد وعشرين من زعماء الثورة وبينما كانت هذه المظاهرات الكبيرة مستمرة حدثت اضطرابات أخري في أنحاء المدينة من نهب للدكاكين وأحداث أضرار جسيمة في شارع الموسكي. والظاهرة التي تعد أشد خطورة من الشغب هي أن دواوين الحكومة بدأت تتأثر بهذه الحركة. فكتبة وزارة الاشغال العامة والمصارف خضعوا لضغط مزدوج من أنصار الحركة في الخارج ومن عناصر في الوزارتين وتركوا مكاتبهم. وفي يوم 12 مارس تمكن شيتام من ارسال برقية للندن يقول فيها بتحسن الحالة نوعا ما. فالقاهرة تبدو هادئة في ظاهرها والحياة فيها تسير سيرها الطبيعي ما عدا توقف التراموايات. ورجع الموظفون الذين تركوا مكاتبهم إلي عملهم في الوزارات وهناك إشارات تدل علي أن إضراب المحامين سينتيه بسرعة. عاد الهدوء لشبين الكوم والبلدة الوحيدة التي كانت مكان اضطراب كانت طنطا وهي مشهورة بوطنيتها فهناك حاول ثلاثة الاف متظاهر اقتحام محطة السكة الحديد ولكن الجنود البريطانيين الذين وصلوا في قطار مسلح ساعدوا رجال البوليس في استعادة النظام. اضطروا لاستعمال الرشاشات وقتلوا بذلك 11 وجرحوا 51. تطور الموقف يوم 14 مارس إلي درجة خطيرة. هوجمت عربة دورية مصفحة في حي السيدة زينب في القاهرة من عدد كبير من الجمهور وكانت النتيجة أن اضطروا لإطلاق النار حيث مات 31 وجرح 27. وبعد ذلك القي القبض علي خمسة من النهابين واعلموا في الحال بإطلاق الرصاص عليهم. وكانت هناك اضطرابات أخري في المدينة في جهات متفرقة ولكنها لم تكن خطيرة. بدأت التقارير ترد الآن بحدوث اضطرابات خطيرة في المديريات. حدثت في دمياط مما دعا المأمور بأن يقول بأن الموقف ينذر بالخطر وطلب نجدة عسكرية ترسل في الحال. وردت انباء خطيرة من الجنوب. هاجمت جماعة من الاهالي والبدو من الفيوم يقدر عددهم بسبعة الاف في مركز الواسطة وقاموا بتسريح البوليس وامتلاك أسلحتهم وساروا للسكة الحديد ومحطة الركة کecea. مسافة تقدر بعشرة كيلومترات وفي محطة الركة هوجم قطار أكسبريس الصبح الذي تحرك من القاهرة وقام المتظاهرون بتحطيم نوافذ العربات ونهبوا عربة البريد.وتعرض الاوروبيون الذين كانوا في القطار إلي أعمال النهب والمعاملة السيئة، ورجع القطار إلي القاهرة. وصلت أخبار من الدلتا في هذا اليوم تقول بعمليات من النهب والسلب. هاجم جمهور من كفر الشيخ مركز الأملاك الأميرية في سخا وحرقوا الاستراحة ومكتب البريد والمحطة وقاموا باتلاف للمحاصيل. تكرر الهجوم علي القطارات واحراق عدد من المحطات الصغيرة. وفي هذا اليوم قامت مظاهرات في المنصورة. وأرسل القنصل البريطاني هناك برقية يقول فيها أن الغوغاء ازالت علامة القنصلية المثبتة في منزله وحطمتها وقدمت بها في النهر. والهجوم علي الأوروبيين وأتلاف المواصلات علي النطاق الذي حدث يوم 15 مارس يدل علي أن الحركة الوطنية التي كانت إلي ذلك الحين مقتصرة علي المظاهرات بدأت الآن تتخذ مظهرا خطيرا للغاية. وبهذا تعرضت أرواح وممتلكات الأوربيين في المديريات خاصة في الصعيد إلي خطر بالغ. وفي يوم 16 مارس استمر تحطيم المواصلات. حصل تخريب للخط في بشتيل وبذلك قطعت المواصلات البديلة للاسكندرية ولمنطقة القنال. وفي الساعة التاسعة والنصف صباحا قطعت كل الاتصالات بين القاهرة والمديريات بواسطة السكك الحديدية والتلغرافات وتعرضت كثير من محطات الضواحي للحرق وتخريب الخط. بعض الأهالي من منيا القمح بين بنها والزقازيق قاموا بهجوم علي المحطة التي كانت تحت حراسة الجيش البريطاني وقد اضطروا لاطلاق النار وقامت بمساعدتهم طائرة واحدة. وقتل ثلاثون وجرح تسعة عشر، لم تحدث اضطرابات في القاهرة في يوم 16 ولكن هناك شعور بالقلق بزداد كلما وصلت تقارير من المديريات وتتضح خطورتها وعدد ضحاياها. والتقارير الواردة من الاسكندرية تقول بأن المدينة كانت في حالة عادية. قامت مظاهرة سلمية في صبيحة يوم 16 بمسيرة في المدينة تهتف محيية القنصليات الفرنسية والايطالية والأمريكية وتشتم البريطانيين. وفي يوم 17 تجمع عدد بلغ عشرة آلاف، وقام بمظاهرة في شوارع القاهرة محييا الوكالات الفرنسية والايطالية والامريكية. قاد هذه المظاهرة طلبة الأزهر يتبعهم طلبة آخرون، وأنضم إليهم علي ما يظهر كل الأوباش الذين أمكن جمعهم في المدينة. وكان النظام سائدا ولم تقع حوادث تذكر الا في الآخر عندما اضطرت جماعة من الجنود إلي التدخل وأطلق يوناني النار علي طالب كان يحمل علما ارداه قتيلا تفرقت بعدها المظاهرة. القي القبض علي هذا اليوناني وسيقدم للمحاكمة بواسطة محكمة عسكرية. وفي الاسكندرية حدث شغب في حي الميناء عندما حاول موظفو الشركة الخديوية الانضمام للطلبة، واضطر الجنود لاطلاق النار علي الغوغاء وقتل 14 وجرح 20 نتيجة لذلك. وأثناء الأربعة أيام الاخيرة كانت القاهرة هادئة في الظاهر: كانت التراموايات تسير تحت حراسة حربية قوية وما عدا محاولة للتحطيم في مزلقان سكة حديد بولاق في القاهرة لم يحصل شيء يستحق الذكر. وهذا الشغب الاخير أخمد في الحال. ولكن الجنود اضطروا لإطلاق النار. وكان هناك العديد من الضحايا. وفي يوم 19 حاولت نساء القاهرة القيام بمظاهرة كبيرة في شوارع القاهرة ولكنها تفرقت. وقامت زعيمات النسوة بزيارة للوكالة الامريكية في مركبات مقفولة وقوبلن بترحيب من حشد طلابي تجمع خارج مبني الوكالة الامريكية. أعلن أصحاب مركبات الحنتور اضرابا يوم 21 مارس ولكنهم بدأوا الرجوع للعمل يوم 22. كانت الاخبار عن الحالة جنوب بني سويف قليلة منذ يوم 16 يوما وصل منها يدعو للقلق. ففي ذلك اليوم كانت المنيا هادئة. أبرق شيتام قبل ذلك بأخبار القطار الذي وصل إلي بني سويف من الجنوب والذي أكتشف فيه وجود جثث عارية ومشوهة لستة من ضابط بريطانيين مقتولين. ولم تصل تفصيلات عن هذه الحادثة البشعة. ويتخوف من أن يكون عدد الضحايا من الانفس في هذا القطار أكثر مما كان يظن أولا. وهناك طابور بريطاني في طريقه لأسيوط والمؤمل أن يتمكن من إلقاء ضوء علي هذه الحادثة. ويبدو أن الاضطرابات حدثت في أماكن عديدة في الصعيد، ولكنها علي وجه العموم كانت أقل عنفا من التي حدثت في شمال المنيا. وهناك معلومات أكيدة تقول عن قطع أسلاك التلغراف والتليفون في مديرية أسوان ولكن الاضرار قليلة. ومعامل السكر في الصعيد سليمة. ووصل واحد وسبعون من الأقصر لوادي حلفا بطريق النهر. «هذا الوصف الذي تجمع من التقارير الواسلة من المصادر الرسمية أمل أن تجد فيها سيادتك صورة للحوادث في مصر أثناء الاسبوعين الماضيني. تصل الكثير من هذه المعلومات يوميا وكثير منها ظهر علي أنه لم يكن دقيقا ويتسم بالمبالغة، ولكن في هذه الرسالة كنت حذرا وضمنتها التفصيلات التي ثبت أنها صادقة فعلا».