ماي تتحدث إلى الصحفيين فى بروكسل قبل أقل من ستة أشهر علي حلول موعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في أكبر تحول في سياستها منذ أكثر من 40 عاما، تسود خلافات، بين لندن من جهة وباقي دول المنظومة الأوروبية من جهة أخري، بشأن كيفية التعامل مع حدودهما البرية الوحيدة، بين إقليم أيرلندا الشمالية البريطاني وجمهورية أيرلندا، العضو بالاتحاد. لكن في الوقت الذي كان فيه المزاج في القمة، التي انعقدت علي مدي يومين، في العاصمة البلجيكية بروكسل، حيث مقر الاتحاد، أكثر تفاؤلا، لم يقم الجانبان بأي تحرك يذكر بشأن كيفية حل قضية الحدود، إذ قال مسئولون ودبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي إن رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي لم تعرض جديدا لاستئناف المحادثات. بل إن رئيسة الوزراء البريطانية وزعماء الاتحاد الأوروبي الآخرين، عبروا عن ثقتهم مجددا في القدرة علي التوصل إلي اتفاق بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد، قائلين إنهم يعملون بدأب للتغلب علي العقبات التي أوقفت المحادثات قبل أيام. غير أن الجانبين سيكونان سعيدين في الوقت الحالي علي ما يبدو بإحراز ولو تقدما بسيطا علي طريق حل تلك المشكلة. وقالت ماي في مؤتمر صحفي بعد انتهاء قمة بروكسل »نعمل جميعا ونكثف العمل علي تلك القضايا المتبقية». وأضافت »ما خرجت به من الزعماء حول الطاولة.. منذ وصولي إلي هنا في بروكسل هو إحساس واقعي للغاية بأنهم يريدون التوصل إلي اتفاق». ومضت تقول »أنا علي ثقة في أن بإمكاننا التوصل لهذا الاتفاق الجيد». ويُعد هذا تغيراً ملحوظاً في النبرة منذ مغادرة دومينيك راب- الوزير البريطاني المكلف بشئون الانسحاب- بروكسل بعد انهيار محادثات الخروج المستمرة منذ أكثر من عام بسبب قضية الحدود. وتتركز المشكلة علي ما يعرف بسياسة الملاذ الأخير التي تضمن عدم العودة إلي إغلاق الحدود في جزيرة أيرلندا، وهي بؤرة توتر سابقة في التوتر الطائفي، إذا لم يجر التوصل إلي علاقة تجارية مستقبلية في الوقت المحدد لذلك. ومن أجل دفع المحادثات قدما، أشارت ماي إلي أنها ستدرس تمديد ما يعرف بالفترة الانتقالية، التي تعقب خروج بريطانيا من الاتحاد »لأشهر فقط»، بعد أن تغادر بريطانيا الاتحاد في مارس 2019، وهي خطوة يقول منتقدوها إنها خيانة لكنها لاقت ترحيباً من الاتحاد الأوروبي. ومع عدم إظهار الاتحاد الأوروبي أي علامة تذكر علي تغيير موقفه بشأن مسألة الملاذ الأخير، فقد يعرض زعماؤه علي ماي أكثر من مجرد الدعم بالقول إنهم يعتقدون أيضا أن بالإمكان التوصل لاتفاق. ويقول دبلوماسيون إنهم يأملون أن تستأنف المحادثات في أقرب وقت ممكن. ووصف رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك المزاج بأنه أفضل من الذي ساد القمة الماضية في سالبورج التي انتهت والغضب يسيطر علي الجانبين. وقال في مؤتمر صحفي: »ما أشعر به اليوم هو أننا أقرب إلي الحلول النهائية والاتفاق». أما رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فقال إن الاتفاق سيُنجز. فيما أكد ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، أن اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي انتهي بنسبة 90٪، وإن ظل احتمال عدم إبرام اتفاقية قائما بسبب العقبات المتعلقة بالحدود الأيرلندية. وقال بارنييه لإذاعة (فرانس انتير) »اتفقنا علي 90 ٪ من الاتفاقية المطروحة علي الطاولة مع بريطانيا». وأضاف »أنا مقتنع أن هناك حاجة لاتفاق، لكنني لست متأكدا من أننا سنتوصل إليه». وقال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هنت إنه سيكون من الصعب حل قضية الحدود الأيرلندية دون توفر المزيد من التفاصيل بشأن العلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي بعد انفصال بريطانيا. وأضاف لهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) »حل ذلك يتطلب تحقيق المزيد من التقدم بشأن العلاقة مستقبلا». أمر مستعصٍ ولكن رغم كل هذه التصريحات المتفائلة تجري الرياح الأوروبية بما لا تشتهي السفن البريطانية، حيث إن المحصلة النهائية هي تعثر مفاوضات الخروج، بل إن هناك تلميحات باحتمالية وقوع الطلاق بدون اتفاق. والمثير للانتباه أن النخبة البريطانية الحاكمة التي ساهمت في بناء الخطاب الشعبوي المعادي لأوروبا وتغذيته، ونظمت استفتاء الخروج من الاتحاد، وتنفذ اليوم إجراءات ذلك، لم تحضّر لا نفسها ولا البلاد لتبعات هذا القرار. ما يوحي بنوع من الاستخفاف وعدم التحضير والتسرّع بشأن قرار استراتيجي يخص مصير البلاد. يبدو أن محنة الخروج باتت أكثر صعوبة مما مضي، وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن التيارات الشعبوية ترفض الإقرار بذلك. ولسان حالها: نخرج من أوروبا وليحدث ما يحدث. المشكلة أن تحميل الآخر (الاتحاد الأوروبي) تبعات الأمور ليس فقط محاولة يائسة لتبرئة الذات، بل محاولة فاشلة لتجاوز الواقع، فلا يمكن لأي تلاعب سياسي، مهما كان، أن يتحايل طويلاً علي الواقع. وتتساءل صحيفة لوموند الفرنسية اليومية: بمن سيتعذّر الشعبويون في بريطانيا بعد مغادرة بلادهم نهائياً الاتحاد؟ حينما يستفحل الهوي وتضيف الصحيفة الفرنسية في مقال تحليلي: أراد الشعبويون العبث بأوروبا، وإذا بهم يعبثون، في نهاية الأمر، ببلادهم، فهم لا يضرون فقط بمصالحها، بل أيضاً بخريطتها، وبالتالي بسيادتها، فاتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيقود، في نهاية المطاف، إلي وضع حواجز حدودية جمركية داخل بريطانيا، بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا الجنوبية. كما أن لندن لن تبقي العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي، فالمؤسسات المالية والمصرفية البريطانية مضطرة لنقل تعاملاتها إلي باريس وفرانكفورت وميلانو وغيرها، حتي تواصل نشاطاتها في الاتحاد الأوروبي. وحتي المواطن البريطاني العادي يتوجس من تداعيات خروج بلاده من الاتحاد، وشرع في تخزين بعض المواد التي يعتبرها استراتيجية، مثل الأدوية، تحسّباً ليس فقط لارتفاع أسعارها، بل لانقطاعها في السوق، لأن بريطانيا تستورد معظم ما تستهلكه من الأدوية من دول الاتحاد الأوروبي. هكذا يحمي الشعبويون بلادهم! في السياسة كما في الحياة اليومية، كلما غاب العقل واستفحل الهوي. أراد الشعبويون العبث بأوروبا، وإذا بهم يعبثون، في نهاية الأمر، ببلادهم. مأساة الشعب البريطاني، بغض النظر من مواقفه وقناعاته حيال الاتحاد الأوروبي، أنه ضحية التيارات المسوّقة الحلول الجاهزة والمتقنة لبناء العدو بناء اجتماعياً. هناك تخوّف بريطاني من عدم التوصل إلي اتفاق في الأسابيع القليلة المقبلة بسبب الاختلاف مع الاتحاد الأوروبي: تخوّف من شلل شبه كامل لحركة تنقل البضائع والأشخاص بين دول الاتحاد وبريطانيا. تخوف سيجعلها، في نهاية المطاف، توقع علي اتفاقٍ يقيها نوعاً من الحظر العملي، بسبب إعادة العمل بالحدود الجمركية بين الطرفين. الخلاف يبقي جوهرياً في كل الأحوال علي صعيد كل مراحل المفاوضات بين الطرفين، حيث إن بريطانيا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع الاحتفاظ بمزايا السوق الأوروبية الموحدة وبالحريات الأربع التي يقوم عليها الاتحاد: حرية تنقل البضائع والاستثمارات ورؤوس الأموال والأشخاص، أي الاستفادة من الاتحاد من دون تحمل تبعات العضوية فيه. أما الاتحاد الأوروبي فيقول إن هذه السوق الموحدة مرتبطة بالعضوية الكاملة، ومن ثم من الضروري إعادة المراقبة الشاملة علي الحدود.. هكذا يتحقق أمل الشعبويين البريطانيين، ولكن بأي ثمن؟ فهم لطالما طالبوا بإعادة بريطانيا تحكّمها في حدودها. وهذا ما سيحدث، لكن ذلك سيكلفها غالياً، ليس من حيث المال والاقتصاد فحسب، بل من حيث الخريطة الجغرافية للمملكة، مع بسط الحدود بين الأيرلندتين الشمالية والجنوبية. طرفان متناقضان المراهنة علي كيفيات الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي استراتيجية بالنسبة لطرفين متناقضين في أوروبا. الطرف الشعبوي، بمختلف أطيافه (في بريطانيا وخارجها)، الذي رحب بهذا الانسحاب، وينتظر بل ويتمني أن يمر بسلام، حتي تتخذ القوي الشعبوبية في الدول الأخري حجةً للمطالبة بمغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن كان الأمر غير هين، فاليمين المتطرّف الفرنسي تراجع عن القول بالخروج من منطقة اليورو في الانتخابات الرئاسية قبل عامين في بلاده، بعدما أوضحت استطلاعات الرأي العام تمسّك الأغلبية الساحقة من الفرنسيين بالعملة الأوروبية الموحدة. أما الطرف الآخر، والمتكوّن من الحكومات الأوروبية المعتدلة والتيارات الليبرالية وبعض التيارات اليسارية، لاسيما الخضر، فهو ينتظر ويتمني أيضاً أن يكون خروج بريطانياً صعباً ومكلفاً لإقناع الدول الأخري بعدم التفريط في الاتحاد الأوروبي، وحتي ينقلب الشعب البريطاني الذي تحلم قطاعات واسعة منه بإعادة الاستفتاء، علي التيارات الشعبوية التي سوقت للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومعاقبتها انتخابياً. ومن ثم، ما ستنجم عنه المفاوضات النهائية، قبل نهاية العام الجاري، لا يخص فقط قضية انسحاب بلدٍ من الاتحاد الأوروبي، وإنما أيضاً المنحي السياسي الذي ستأخذه التيارات الشعبوية والمتطرّفة الأوروبية، إما نحو مزيدٍ من المد أو نحو الانحسار. إنها مراهنة استراتيجية لطرفين متناقضين تماماً.