تقدِّم رواية »سور ثلجي في الصحراء»لمحمد سليم شوشة رحلة ممتدة لساردها في المكان والزمن، لتتدفق في غنائية واضحة لصوتها السارد الذي يجتر ذكرياته وخواطره، وفي أثناء قيامه بذلك نجد ما يسرده من أحداث شخصية تتقاطع تاريخيًّا مع أحداث مفصلية كبري تمثل نقاط تحولات فارقة في تاريخ مصر. في »سور ثلجي في الصحراء»، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، مراوحة بين المكان الحضري والمكان البدوي، حضور متعدد لتشكيلات سيسوثقافية متنوعة، وهو ما يضفي علي الرواية إيقاعًا دراميًّا يعتمد علي تلك المراوحات في الأحداث والفضاءات والأحوال منوعة للوعي بين اليقظة والحلم. في رواية »سور ثلجي في الصحراء» كما في كتابة محمد سليم شوشة عناية متبدية بسرد التفاصيل الدقيقة وأشياء المكان التي تمثل خلفيات للمشاهد، وكذلك ثمة عناية أخري بسرد ما يعتمل في دواخل الشخصية من انفعالات وخواطر نفسية. ثمة قدرة بادية من الكاتب علي حشد وفرة من التفاصيل الخاصة بالسياقات الاجتماعية والثقافية لفضائه السردي، فضلاً عن التوازن الواضح في حضور الشخوص مع وفرة الشخصيات الثانوية التي تمثل مع الأشياء التي ترصدها الكاميرا السردية خلفيات للمشهد السردي، تعمل علي تقوية البناء السردي وإثرائه. الغرائبية والحضور الشبحي رغم ما تبثه الحكاية في رواية »سور ثلجي في الصحراء» من أحداث ومواقف يعاينها صوتها السارد تبدو واقعية، إلا أنّ ثمة حضورًا غرائبيًّا يخامر ما بالحكاية من أحداث واقعية: »الشارع هو هو بمبانيه لكنه أحيانا يبدو فارغا تماما من المارة وفجأة دون ضجيج أو ضوضاء يظهر به أناس بهيئات مختلفة وأعمار متفاوتة، والعربي يسير إلي جواره قابضا علي يده، وهو يتابع الناس الذين يظهرون فجأة.. أفريقي طويل بملابس غير مألوفة وشعر رأس طويل خشن، وأوربي ذو ملامح وديعة ونظارة طبية شفافة لا تخفي عينين زرقاوين جميلتين وحاجبين أصفرين كالذهب، يبدو قفاه أجمل مما يجب. طفل في حوالي الثالثة عشرة من عمره يلعب علي جانب الطريق بانهماك ولذة ولا يظهر عليه القلق أو بوادر الملل من الانتظار كبقية الناس.. امرأة شرقية جميلة سافرة الوجه لا ينظر إليها أحد وكأنها أحد مباني المكان أو أشجاره، أحيانا تظهر سيدة أو سيدات أخريات وتختفي بأسرع من قدرته علي الملاحظة». وكأن الصياغة السردية، لدي محمد سليم شوشة، حين تقدم الواقع بمكوناته كمفردات المكان بوصفها عناصر مادية للحكاية ومدخلات في الصناعة المشهدية، تعمل، هذه الصياغة السردية، علي نزع ما يكمل هذا المشهد ويخالف أفق التوقع بشأنه، كما في نفي المارة وتفريغ الشارع منهم. ثمة نزوع إلي »التغريب» في مشهدة شوشة يضفيه علي الواقعي، فيختلط ما هو واقعي بما هو وهمي، فأحيانًا ما يبدو المكان وكذلك الشخوص أقرب إلي التمظهر التهويمي، المترجرج، في منطقة برزخية ما بينية، بين الحقيقي والشبحي، عوالم اليقظة مع الارتداد لعوالم الحلم. أما حضور شخصية هذا الرجل »العربي» الغريب، فيبدو حضورًا مموهًا، مراوغًا ومراوحًا بين وسم الرجل الأفريقي والأوربي في آنٍ، في تناقض متبد في مظهره، يبدو هذا الرجل العربي أقرب ما يكون إلي الذات الشبحية للذات الساردة، أو »الذات الضد» التي تصارع الذات الموضوعية وتلاحقها وتطاردها. الإخفاق قدر الشخوص في رواية »سور ثلجي في الصحراء» ثمة حالة من الإخفاق تبدو قدرًا يلازم الشخوص، يكدر عليها عيشها، فالشخوص في حال حيرة من مآلهم ومصيرهم: »محمود خليفة لا يمر من الصالة إلي باب البيت دون أن يري صورة عصام ابنه، الصورة مكتوب أسفلها بدون كتابة حقيقية أو خط (عصام لم يكن معصوما)، كتابة لا يراها غيره، يقرؤها كل يوم حين يري الصورة، ويستولي عليه الندم، لماذا اسماه عصاما، يتصور أن السبب الوحيد في أن يكون قدره الموت في الشباب هو تسميته بهذا الاسم، منذ مات عصام من أكثر من عامين وهو يسأل نفسه كل يوم: هل كانت التسمية بهذا الاسم تحديا ومعاندة للقدر.. لا يتوقف طويلا أمام الصورة وأحيانا لا يتوقف أصلا، وربما لا ينظر إليها في بعض المرات، لكنه يراها دائما، ويقرأ هذه العبارة في كل مرة (عصام لم يكن معصوما). هو السبب في هذا الاسم المشؤوم. عناصر الشؤم كثيرة حوله، أحيانا يتصورها في التشكيلات الحديدية في الباب الحديدي للفيلا أو للبيت. هي فيلا في نظر الجميع، أما هو فلا يقول إلا البيت، كلمة البيت تشعره بالارتياح والسكينة». تبدو أغلب الشخصيات في رواية شوشة في مواجهة لامواتاة أقدارها، وفي مجابهة رياح عاتية في مصير »دون كيخوتي» معاند لإرادتهم، كما تبدو الأسماء التي تمثل علامة تأشيرية تسعي لأن تمثل هوية الشخوص مجافية لأحوال هذه الشخصيات في مفارقة ضدية، فالأقدار تأتي ضد تسميات الشخوص وعكس إرادة من يختارون هذه التسميات، ف”عصام لم يكن معصومًا» إذ مات قتيلاً، إذ إنّ الفقد يقنص الآخر الذي تأنس الذات به سواء الآخر المرأة أو الولد. الوعي بالمكان علاقة الذات بالمكان، لاسيما الشخصية الرئيسية في الرواية، محمود خليفة، علاقة مشوبة أبدًا بالقلق والتوتر، فالذات تشعر بحصار المكان لها وتضايقه عليها، حتي لو اتسع هذا المكان (فيلا) أو البيت كما تسميه الذات نشدانًا للألفة التي ينطوي مفهوم البيتية عليها، فثمة شعور دائم يحاصر الذات بتسوير حياتها سواء أكان السور ماديًّا في معناه المباشر أو سورياً معنوياً نفسياً فيما اسماه الصوت السارد ب”أسوار الأب”. ولكنّ الذات ما تلبث أن تضيق بالمكان، فترحل من مكان لآخر، إلي المزرعة وإلي فضاء البادية، أو إلي البحر وفضاء الحلم. نجد وعي الذات بالمكان غالبًا ما يميل إلي الإفلات من التمثُّل المباشر للمكان في صورته الأولي، أي المكان كما هو عليه، بل تميل الذات إلي تجاوز التعيين المحدد للمكان: »في الظلام يشعر بالمزرعة مثل الجزيرة التي عاش عليها بطل فيلم cast away 2000 وحيدا لأعوام بعد أن نجا من طيارة سقطت في المحيط، وحصل علي النار بعد صبر ومعجزة، هل قد تحدث المعجزة ويحصل علي النار أو يحصل علي حب زينب الشابة الصغيرة ذات ال18 عاما؟ هل هناك فرصة قبل الموت للحصول علي حبها ودفء جسدها المنطلق؟» تعمل الذات التي ترحل عن مكانها بالفعل أو بقوة التخييل علي إعادة تشكيل المكان وأحيانا استبدال مكانها نفسه بآخر تستدعيه من جيوب اللاوعي، فالسرد عند محمد سليم شوشة يعمل علي تشعير الخطاب الحكائي بما يقيمه من متوازيات استعارية، فضلاً عن تدفق الأسئلة التي يفيض بها الخطاب.