ثمة خيوط عديدة تربط رواية عزت القمحاوى الأولى «مدينة اللذة» بروايته الأخيرة «البحر خلف الستائر»، أهمها تلك الكتابة التناقضية التى تغويك بالجرى وراء سرابها المحبوك كى تكتشف فى النهاية أن لا لذة حقيقية فى «مدينة اللذة»، كما ستكتشف أن لا بحر حقيقيا خلف تلك الستائر، لأننا فى عالم مقلوب حقا، يقع فيه وهم البحر، أى بركة السباحة، فى أعلى البرج، بينما يبدو البحر الذى يطل عليه خامدا لا حياة فيه. وهى كتابة تدعوك إلى تأمل ما تضمره تحت السطح الخادع، لأننا بإزاء كتابة شغوفة بتشييد عالمها السردى الخاص، الذى يبدو وكأنه عالم واقعى، لكنه مفارق للواقع بقدر محاذاته له. يحرص فيه النص على تخليق قوانينه الداخلية المتفردة، دون التخلى عن منهج الكتابة الواقعية الهادئة. لكن كلا من الروايتين تطمح فى الوقت نفسه إلى بلورة استعاراتها الدالة على الوضع الإنسانى فى ذلك العالم الغريب، الذى تسعى كل رواية منهما إلى كتابته بطريقتها المتفردة. فالعالم المفارق للعوالم المصرية التى كتب عنها عزت القمحاوى رواياته الثلاث الأخرى الواقعة بين الروايتين، التى تنتمى آخرها (بيت الديب) إلى ميراث رواية الأجيال وتجربة القرية المصرية، عالم غريب بحق. ينتج من تجربة الكاتب فى الخليج، الذى عمل فيه مرتين، مرة فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، والأخرى فى العامين الأخيرين. وأسفرت كل منهما عن روايتها. كما أسفرت النقلة الفنية بين الروايتين عن رحلة الكاتب مع النضج والتمكن من أدواته السردية والمعرفية على السواء، حيث يقدم لنا القمحاوى فى «البحر خلف الستائر» تنويعاته المتفردة على ما سميته بتجربة الخروج العربى. وهى تجربة ثرية فى الأدب المصرى، بدأت على استحياء فى كتابة الأجيال السابقة، خصوصا فى قصة سليمان فياض البديعة «لا أحد»، لكنها تنامت بإيقاعات متسارعة بعد تخلّق المناخ الطارد فى زمن السادات الكئيب. وخروج كثير من المثقفين المصريين للعمل فى المنافى العربية، وكتب عدد منهم أعمالا شيقة عن تجربة الخروج العربى تلك، وفى الخليج خصوصا، بدءا من محمد أبو المعاطى أبو النجا، وصولا إلى محمد المنسى قنديل الذى كتب بعض ألمع تلك الأعمال وأكثرها تأثيرا. لكن عزت القمحاوى، ومنذ روايته الأولى «مدينة اللذة» اختار منهجا مغايرا فى الكتابة عن تلك التجربة يوشك أن يكون النقيض الكامل لمنهج محمد المنسى قنديل، حيث لا يسعى لتجذير التجربة فى الواقع أو المكان مثله، إنما إلى زعزعة تلك الجذور، بصورة تجعل التجربة المكتوبة تجربة احتمالات وتوهمات أكثر من كونها تجربة واقع حقيقى صلد، رغم أنها تمور بالوقائع، دون أن ينتقص ذلك بأى حال من الأحوال من قدرتها على التأثير، بل يرهف إمكانياتها الاستعارية ويفتحها على آفاق متعددة من الدلالات. وقد بلغت تلك الطريقة درجة عالية من العمق فى روايته الجديدة التى تبدو وكأنها تدخلنا فى لعبة احتمالات لا تتحقق، لكل منها ألقها الخادع، وإحباطها الفريد. كاحتمال أن يكون هذا البرج الغريب نفسه واقعا صلدا قادرا على تلبية شروط الوضع الإنسانى الأعمق فى الوجود، رغم الإفراط البادى فى تلبية كل مطالب سكانه، بصورة تعمق لا واقعيتها وآليات المحو المضمرة فيها ولا ترسخها. وتبدأ الرواية منذ سطورها الاستهلالية بلفت الانتباه إلى هذا الواقع الاحتمالى «فى غرفة فسيحة يسمونها جناحا، يعيش. لا يعرف متى يمكنه أن يغادر، ولا يتذكر لمَ ومتى جاء. يشعر أحيانا أنه كان فى هذا المكان من قبل، وأحيانا يتخيل أنه شاهده فى فيلم بالأبيض والأسود. بينما يجعله عجزه عن الفرار يعتقد أنه نائم على سريره فى بيته، يحلم بأنه طارئ فى غرفة بالطابق الثانى والعشرين من برج ذى ستة وعشرين طابقا». (ص5) منذ تلك الكلمات الأولى فى الرواية تبدو غرابة حالة هذا الذى يحرص النص على تسميته ب«الطارئ» العابر الهش، ويبقيه هكذا طوال النص دون اسم حقيقى. وهل نحن فى عالم حقيقى؟! لأننا لا نعرف إن كان هذا الطارئ حرا أم سجينا، فى حلم أم فى واقع، محكوم عليه بالبقاء أم اختاره بمحض إرادته. وهكذا يتخلق التناقض بين الواقع والتسمية «غرفة يسمونها جناحا»، وهو تناقض سرعان ما يتعمق مع غياب الذاكرة والتعلّة والهدف. ومع الإيحاء بالسجن المضمر فى عدم معرفة موعد المغادرة والعجز عن الفرار، وكأننا بإزاء اعتقال مفتوح لا سجن لفترة محددة. وهو الأمر الذى تؤكده بداية الفصل التالى «لا يكف السجين عن عدّ أيامه» (ص9) وستكرسه الرواية كلها التى تنتهى ب«الطارئ» هرما، وقد تقدم به العمر فى البرج دون أن يبرحه، فنحن بإزاء عالم يبدو فيه كل ما هو واقعى حلميا، أو وهميا. يعيش فيه «الطارئ» حياة ترهقه خفتها اللا محتملة، أو بالأحرى عبء وهميتها الفاجعة. فكل ما يدور للبطل فيه على مدى فصول الرواية ليس إلا احتمالات تبدو لوهلة وكأنها حبلى بالأمانى، لكنها سرعان ما تتكشف عن وهم أو خواء. وبسرعة يتحول البرج بأكمله إلى استعارة لواقع غريب، يموج بالطارئين الذين لا يقلون هشاشة وعرضية وخواء عن البطل/السارد، أو بالأحرى المسرود. فلا يوفر له الكاتب، رغم أن النص كله مكتوب من منظوره، ترف أن يروى قصته بضمير المتكلم، فلضمائر السرد دلالاتها ومحتواها. إنما يظل السرد بضمير الغائب شارة على الحضور الممحو الأقرب إلى الغياب، منه إلى أى حضور أو تحقق. وعلى مد فصول الرواية الخمسة عشر، وهى فصول غير مرقمة وغير مُعنْونَة، وكأنها تعى أنها تكتب واقعها تحت الممحاة كما يقول ديريدا، تتعزز احتمالية هذا العالم وعرضيته وصلادته الخاوية معا. ويتوقف فيه الزمن عن التقدم دون أن يتخلى عن قدرته على ضعضعة الروح والجسد معا، وعلى ترك آثاره فى شيخوخة المشاعر والحركات على الطارئين.