تسلّط رواية »مقتل بائع الكتب» للروائي العراقي سعد محمد رحيم الضوء علي مرحلة تاريخية هامة من حياة مثقفي العراق جيل الستينيات الذي عايش حدوث الانقلاب علي الملكية، ونكوص الخيار اليساري الذي كان في أوج ديناميته ليس بالعراق فحسب، بل في العالم بأسره، ولا تقف عند هذا الحد، بل تتجاوزه لتعكس صورة درامية مع بعد سقوط صدّام حسين، وفترة الحماية الأمريكية، مرورا بحالة الحصار الذي طوق رقبة المثقفين والساسة العراقيين، والمطاردة الاستخباراتية التي لاحقتهم في كل البلاد التي يقصدونها هروبا من المجزرة التي ينصبها النظام لخصومه، وانتهاء بحالة الخواء التي انتهي إليها هذا الجيل الحالم الذي ضحي بعقود من النضال والمجاهدة، ليجد نفسه ضحية ضياع لا يوصف، وسط بلد مشتعل بنار الفتن والغدر والقتل والإرهاب والفوضي. تقع أحداث هاته الرواية في فترة زمنية تتراوح بين انقلاب 1968م وما بعد سقوط نظام صدام حسين عقب حرب الخليج الثانية التي قادتها الولاياتالمتحدةالأمريكية مدعومة بالتحالف الدولي بعد أن تم حشد الرأي العام الدولي ضد نظام صدام تحت ذريعة تورطه في هجمات 11 سبتمبر 2001م، وامتلاكه للسلاح النووي المحظور وتهديده لسلامة الشرق الأوسط، مصورة ما آل إليه وضع العراقيين بعدما توسموا خيرا في الحماية الفرنسية ووثقوا في تبريراتها وطروحاتها ووعودها المغرية، فإذا بهم يجدون أنفسهم وسط عاصفة من الخراب والدمار ليس هناك أي بشير لانقشاع غيمتها في الوقت القريب. نكسة الخيارات اليسارية الشيوعية ينتقي الروائي شخوصه العراقيين من جيل الستينيات والسبعينيات الذي حمل فكر اليسار وتأثر بالخيار الشيوعي الذي نظر له ماركس، لكنهم لم يتحمسوا لمستوي تطبيق النظرية الذي خطط له ستالين في روسيا، وراح يبحث له عن مطامح خارجية توسع امبراطوريته، مبرزا التطوّر المفاجئ الذي عرفه وضعهم السيّاسي بالعراق عقب حدوث انقلاب 1968م وما استتبعه من تضييق علي الخصوم وحاملي الفكر الاشتراكي، والمثقفين، والمبدعين المتشبعين بالفكر الغربي وأفكار الثورة وفلسفة التنوير وغيرها مما يسبب خطرا علي النظام الجديد الذي بات يوطد دعاماته في هياكل الدولة بطرقه الأمنية البشعة التي تجتث شأفة كافة التنظيمات المخالفة التي تحمل فكرا نقيضا سواء كانت لها علاقة بالسياسة أم لا، مستعيضا عنها بتنظيمات تابعة تمجّده وتكون بوقا إعلاميا لبطولاته الوهميّة. وقد استعار الروائي عنوانا مثيرا »مقتل بائع الكتب» تعبيرا منه عن سخريته المرّة ممّا حصل لشخصيّاته، ومن الدراما العبثية التي طحنت الطبقة المتنورة في لحظة تاريخية مفصلية أجهزت علي أحلام جيل بأكمله، وتدليلا علي أن كل ما يحيل للثقافة وتجلياتها أصبح تهمة، من الكاتب إلي البائع مرورا بالراقن والمصفف والطابع والناشر، ناهيك عن السياسي الحامل لأفكار لها حمولة مخالفة للسائد، فالنظام الجديد مصاب بحمي السعر ضد كل ما يشتم فيه رائحة غريبة عنه ولو من باب الغلط. تداخل المصائر وأزمة المثقف تحكي الرواية قصة رجل عجوز يشتغل بائعا للكتب في مدينة بعقوبةالعراقية تمت تصفيته بمسدس كاتم الصوت لأسباب غامضة، فيسعي صحفي بجريدة الضد يدعي ماجد لإنجاز كتاب حول سيرته بإيعاز من شيخ سبعيني موسر رصد ميزانية مهمة لهذا العمل، ووضع رهن إشارته سيارة، وتوسط لأخذ إجازة مفتوحة له لمساعدته علي إنشاء سيرة مفصلة حول رجل غامض لا منزل ولا أسرة ولا أقارب له. رجل يعيش حياة بوهيمية بعيدا عن العالم لا تؤنسه سوي كتبه. وهكذا يباشر الرجل عمله مجردا من كل الأدوات ما عدا بعض الأسماء لأصدقائه ومعارفة القدماء، فيسافر في ظروف قاهرة من بغداد إلي بعقوبة لينبش وسط عاصفة القتل والخطف العشوائيين الذين طبعا مرحلة ما بعد سقوط التمثال، والحماية الأمريكية، قبر رجل لا يمثل له أي شيء، ولا علاقة سبق أن ربطته به، وهو فوق ذلك عجوز نكرة لم يسبب موته أي أثر يذكر في قلوب الناس من حوله إلا من بعض مشاعر استياء واستغراب في نفوس بعض الذين يعرفونه عن بعد حول الطريقة التي قتل بها، والأسباب الغامضة التي أودت به إلي هذا المصير، وإن لم يكن هناك حاجة لأسباب في هذا الزمن لذريعة من أجل تصفية الناس. يقول الراوي علي لسان المرزوق، واصفا فظاعة الوضع في ظل الاحتلال الأمريكي: اترتفع أعداد الذين يقتلون، أو يخطفون... العصابات المسلحة تكاد تسيطر علي الوطن... للمرة الثالثة يخطفون رجلا من عائلة ثرية تمتلك مصانع عديدة... العصابة تريد فدية عالية... سمعت أن العائلة الثرية تفكر بتصفية أملاكها والهرب إلي الخارج... هكذا سيجد مئات من العاملين في تلكم المصانع أنفسهم علي رصيف البطالة... يبدأ ماجد عمله الغامض والمثير في جمع المادة حول العجوز محمود المرزوق اعتمادا علي إضاءات ومساعدات زميليه مصطفي كريم والروائي محمد سعد رحيم فلا يجد غير مسودات من نتف وشذرات كان يدونها في سجل تركه في قمطره بمكتبته الرثة، وبعض الصور التي زوده بها الزملاء، وبعض لوحاته التي رسمها في أزمنة متفاوتة، فضلا عن رسائل تبادلها مع خليلاته، وبعض الشهادات الشحيحة من أشخاص عرفوه ورافقوه في بعض مراحل حياته المأساوية. المرزوق عجوز عراقي زير نساء،مثقف شديد السخرية والتهكم من كل شيء، يكره السياسة والسياسيين، وإن كان مثقفا وفنانا تشكيليا يحلم بمجتمع ديمقراطي ومؤمن فوق العادة بقيم الشيوعية الماركسية، لم يفكر في الثورة أو الانقلاب علي النظام يوما، لكنه فوجئ بكونه دوما علي رأس لائحة المطلوبين في العراق وفي البلدان التي رحل إليها هربا من المقصلة، لحظ عاثر، وجد نفسه يخرج من متاهة ليدخل أخري، ومن حصار إلي حصار أشد ضيقا، وظل يفلت بجلده من مشانق المخبرين والمتابعات الأمنية حتي استقر به المقام متسكعا في باريس. يقول الراوي: »هناك في المعتقل، تعرض المرزوق لتعذيب شديد... بعد شهرين، وجد مئات من المعتقلين أنفسهم محشورين في عربات قطار لحمت أبوابها ونوافذها إلي الحد الذي لم يبق فيها منفذ لدخول ولو جزيئة هواء واحدة. ذلك القطار الذي سمي بكتب التاريخ السياسي المعاصر (قطار الموت) كان أحد ركابه محمود المرزوق». ويحكي المرزوق نفسه في رسالة لإحدي عشيقاته، عن هذا النحس الذي يطارده قائلا: (قضيت في سجن نقرة السلمان الصحراوي خمس سنين، وأطلقوا سراحي بعد وقوع انقلاب آخر... غير أنهم لم يتركوني وشأني... كنت المرشح الأول في أية قائمة اعتقال أعدت للتو، حتي وإن لم أرتكب أي أمر يخل بالنظام الذي حددوه. وحصل ما حصل معي في براغ... وما لم أخبرك به أنهم احتجزوني في مطار باريس بعد نزولي من الطائرة في أول مرة أدخل فيها فرنسا... حقق معي رجل ضخم... كان ينظر لي شزرا وكأنه علي وشك اكتشاف أمر جاسوس أو إرهابي خطير... أعتقد أن فيّ شيئا يستفز رجال الأمن والشرطة وحراس النظام في كل وقت ومكان، يستنفر فيهم حاسة الخطر. كما لو كنت أبث شعاعا منذرا من مساماتي، فأنا أبدا مصدر إزعاج وشكوك وتهديد دائم. يبدو انهم لم يكونوا يحبون رائحتي إذا وافقنا بعض العلماء علي أن ما يجذب وينفر في الشخص هو رائحته). ولأن النحس يطارده بإصرار، فإنه حتي لما عاد منهكا بثقل السنين والخسارات المتتالية في الحب والحياة والإبداع إلي بعقوبة بعد سقوط المعسكر الشيوعي وتداعي خياراته الثورية في معقل ميلاده، ليخلد إلي ذاته وكتبه وذكرياته، وجد أمامه هذا النحس ليسبب له كراهية شديدة وسط من حواليه بسبب سخريته من الناس والعالم والأشياء، لينتهي في الأخير تلك النهاية البشعة مقتولا برصاص غلط في الشارع العام قريبا من مكتبته المتواضعة التي يعتاش منها. عاش ضائعا ومات قتيلا بلا سبب: (لم أحاول كفاية في أي وقت. أقف دائما عند التخوم. أنظر من ثقب الباب أو من خصاص النافذة... هنا كحد أخشي تجاوزه... الحدود. أقول عنها متبجحا؛ إنها لا تعنيني. وأذهب أحيانا بعيدا... أتمادي وأكسر الحاجز... هذا في عقلي فقط.. في خيالي المجنح المنفلت... حشد الصور يبدأ مع انفعال جامح وينتهي معه.... عبارة غامضة أليس كذلك؟). الروائية وتخمة التقنائية تتميز هاته الرواية بزخمها التقني المترادف الذي يشي بوعي الكاتب بصيغ الخطاب، ومعرفته الكبيرة بالخطاطة السردية التي راح يسائلها داخل المتن نفسه، ليدرج التفكير في التسريد النصي ضمن المحكي الروائي دون أن يسبب ذلك ارتباكا في التنظيم العام لعوالم الرواية، واضطرابا في الانسجام النصي، بل زاد ذلك من شحنات التشويق ودفق الطراوة النصية التي باتت تجدد نفسها تباعا، مستفيدة من الوعي البوليفوني لدي الروائي، وحرصه الكبير علي التنويع في الأدوات والصياغات والأساليب؛ بما يغني النص ويثريه، ويفتح أفقه علي أنواع شبيهة أو مخالفة؛ مطوّعا بخبرته السّردية كل المواد التي استلهمها لعجن مسرده الروائي. وقد أفضي بي التأمل في بنية الخطاب السردي في هاته الرواية إلي تسجيل جملة من الملاحظات أذكر منها ما يلي: جعل اسم الروائي سعد محمد رحيم، الكاتب الفعلي للرواية، شخصية عرضية ضمن المتن، باعتباره من المساعدين لماجد بغدادي في تقصي المادة الخبرية حول شخصية المرزوق موضوع الكتاب المزمع إنجازه، وباعتباره كذلك من أصدقاء المرزوق (ص. 9). اعتماد أسلوب التأطير السردي (حكاية إطار »حكاية ماجد في بحثه عن المادة السردية لكتابه» وحكاية مُؤطَّرة »حكاية المرزوق التي هي الحكاية الفعلية للنص الرّوائي، وما الأولي سوي حيلة سردية»)؛ توظيف أسلوب التوليد السردي، حيث تتناسل الأحداث علي شاكلة التحقيق البوليسي كلما ظهرت شخصية جديدة أو مكان جديد أو علامة تنير شخصية المرزوق الغريبة الأطوار. الانفتاح علي أنواع سردية أخري يتم استضمارها وتطويعها داخل المتن لإغناء الحكاية والخطاب معا: (اليوميات، تحليل لوحات تشكيلية وصور فوتوغرافية، رسائل متبادلة، إميلات من أشخاص لهم علاقة بالمرزوق عبر البريد الإلكتروني، المذكرات، المحاورات، الاتصالات الهاتفية، تقارير التحقيقات الأمنية...)؛ تنويع الأفضية التي وقعت فيها أحداث النص الروائي بين أربع محطات (بغداد، بعقوبة، براغ، باريس)، وداخل هاته الأمكنة الرئيسة تنتصب أمكنة أخري ثانوية، لكنها لا تقل عنها أهمية من حيث الدلالة نظرا لعمقها النفسي وأثرها في عمق الشخصيات (السجن، مراكز الاستخبارات والتحقيقات الأمنية، المقاهي، المطاعم، صالات العرض، المكتبات...)؛ أتاحت بنية النص المنفتحة للكاتب فرصا متعددة لتنويع الضمائر وتحويل زوايا السرد والوصف، فتارة يكون راو خارجيّ مستحكما في دواليب الحكي، وتارة يأخذ ماجد الكلمة، ومرات أخر يسلم الفرصة للمرزوق كي يروي أسراره من خلال مذكراته ويومياته، دون أن نعدم إيجاد أصوات أخري لشخصيات مقربة من المرزوق تتحدث بلسانها الخاص عن تجاربها وعلاقاتها مع هاته الشخصية الملتبسة بغرض إضاءة جوانب منها، في شكل رسائل أو خطابات إلكترونية موجهة إلي ماجد. تظهر في النص، ثقافة الروائي السياسية والفنية والأدبية والتاريخية، وقدرته علي مسح عقود من الزمن من تاريخ العراق المعاصر منذ انقلاب 1963م إلي حدود ما بعد سقوط نظام صدام حسين. وهذا ما هيأ له بنجاح عصر مادة إنسانية كبيرة عاش جزءا منها في هذا المسرد الروائي. تشكل رواية امقتل بائع الكتبب شهادة علي العصر من قبل روائي ينتمي لجيل من المثقفين العراقيين الذي عايشوا عقودا ملتهبة من التحولات السياسية، والاضطرابات التي لم تخمد بالمنطقة علي مدي نصف قرن تقريبا، وما تزال تبعاتها تحرق الناس والأفئدة. وهو جيل أدي الثمن من دمائه ولحمه وروحه ليجد نفسه محاصرا بكل أنواع الخيبات التي ما كان يتخيلها يوما، وليستيقظ علي صورة الفجيعة التي التهمت كل نضالاته، وأحلامه وطموحاته، صورة الانكسار في ليل واقع معتم لا أمل قريب ينذر بانجلائه، ودنو الإصباح علي شروق غد جديد. لتظل النهاية، كما جاء في نهاية الرواية، مفتوحة علي كل الاحتمالات، في وقت يصل فيه هذا الجيل إلي مراحل من العجز والكهولة واليأس غلي درجة أنه لم يعد ينتظر من هذا العالم شيئا سوي قبر هانئ لا تتحرك فوقه الدبابات ولا تشتعل علي حواف مقبرته النيران.