خيوط بيضاء ممتدة تنساب كشلال علي الطاولة المستديرة قبل أن تمتد يد لتجمعها بعناية فائقة في طريقها للحلواني أو لمطبخ إحدي ربات البيوت.. سر الصنعة يرتبط بالعجين وبالكثافة وبالخبرة وكذلك بالكلمة الحلوة في معاملة الزبون.. ويقال إن أحد الأمراء كان يشعر بالجوع خلال نهار رمضان ففكر الطهاة بعمل صنف يتناوله علي السحور فكانت الكنافة ويقال أيضا إن هذا الأمير هو معاوية بن أبي سفيان وأن تلك الحكاية تعود إلي فترة ولايته علي الشام حتي أن اسم الكنافة ارتبط به وأصبحت تعرف ب»كنافة معاوية» وفي رواية أخري قيل إن الكنافة صنعت خصيصا لسليمان بن عبد الملك الأموي، وتتعدد الروايات حيث يذهب البعض إلي أن تاريخ الكنافة يعود إلي العصر الفاطمي. سميت الكنافة بهذا الاسم كما يشاع أيضا تحريفًا من اسم »تشنافا»، والتي تعود إلي اللغة الشركسية، تشنا (البلبل) وفه (لون) أي، تعني لون البلبل.. أما المعاجم العربية فتعرف الكنافة بأنها حلْوَي تتخذ من عجين الحنطة يُجعَلُ علي شَكْل خيوط دقيقة، ويتم إِنضاجها بالسمن في التَّنُّور أَو نحوه ثم يضاف إِليها السكَّرُ المعْقَدُ، وأَكثر ما تُؤكَلُ في شهر رمضان، وفي موضع آخر: وَتُحْشَي بِالجُبْنِ وَالقِشْدَةِ وَتُنْضَجُ بِالسَّمْنِ وَتُعْقَدُ بِالسُّكَّرِ.. وقد وجدت الكنافة والقطايف طريقها إلي الأدب والشعر حتي أن هناك كتاب يحمل عنوان »منهل اللطايف في الكنافة والقطايف» لجلال الدين السيوطي، بخلاف أشعار أبو الهلال العسكري، والسراج الوراق، والمرصفي وكان أبو الحسن الجزار المصري من الشعراء المصريين الذين وقعوا في حب الكنافة فقال فيها: سقي الله أكناف الكنافة بالقطر... وجاد عليها سكر دائم الدر. وتظل حكايات الكنافة مرتبطة في الأذهان بمذاقها الشهي لا سيما تلك التي ترتبط بشهر رمضان الكريم ولكنها لم تكن تخرج عن الكنافة بالمكسرات أو المهلبية، إلا أنها ومع تطور العصر أصبح هناك الكنافة بالمانجو والنوتيلا والريد فيلفت وغيرها، لكن التطور لم يقف عند الأصناف وطريقة صنعها إنما شهدت الصنعة أيضا تطورا كبيرا، حيث اختفت تقريبا الكنافة البلدي أو ما تعرف بالكنافة اليدوية التي كان الصانع يقوم برش عجين الكنافة يدويا علي الطاولة الصاج والتي كانت تتطلب مهارة وحنكة، كما تتطلب مجهودا إذ يجب علي الصنايعي أن يقف أمام الطاولة الساخنة التي تصدر درجة حرارة شديدة. ويظل طقس الكنافة اليدوية من الطقوس الملازمة لحلاوة رمضان ولأغنياته مثل »رمضان جانا» للمطرب الكبير محمد عبد المطلب، و»مرحب شهر الصوم » للمطرب عبد العزيز محمود، »والله بعودة يا رمضان» للمطرب محمد قنديل وغيرها، إذا تم تسجيل الأغنيات وعرضها مصاحبة لمشاهد رمضانية ومنها صناعة الفوانيس والمسحراتي وقدرة الفول وكذلك القطايف والكنافة. ويبدو أن غالبية مشاهير صنعة الكنافة قد رضخوا لتغيرات العصر وتخلوا عن الكنافة اليدوية، إذ بدأت رحلة البحث عن الكنافة اليدوي من ميدان السيدة زينب حيث محل عرفة الكنفاني أحد أشهر الأسماء في هذه الصنعة، والذي يستمر في بيع الكنافة طوال العام علي عكس الكثير من المحلات التي تتعامل مع الكنافة باعتبارها موسما، إلا أن الفارق الوحيد يكمن في توقفه عن بيع الكنافة الجاهزة خلال رمضان، ويكتفي ببيع الكنافة والقطايف وكذلك الجلاش الذي لا يقوم بصناعته وإنما يتم توريده للمحل بالاتفاق مع مصنع للجلاش. في لقاء مع الحاج عتريس عرفة البالغ من العمر ستة وسبعين عاما والذي كان يجلس مرتديا جلبابه الأبيض أمام المحل لمتابعة سير العمل بنفسه أخبرني أن السبب الرئيسي في اختفاء الكنافة اليدوي أو كما يطلقون عليها الكنافة البلدي يرجع إلي انقراض الصانع الماهر، لذا انتقل الجميع إلي الكنافة الآلي، لكنهم يحرصون علي إنتاج الكنافة البلدي آليا، أي محاكاة مذاق وكثافة الكنافة البلدي عن طريق الماكينات، حيث تختلف الكنافة اليدوي عن الآلية في سمك خيوط الكنافة، وهو ما يتبعه أن تتشرب الكنافة البلدي الكثير من السمن ومن السكر أثناء التسوية لذا يفضلها أبناء البلد والأجيال الأكبر سنا، أما الكنافة الآلي فهي أفتح في اللون ولا تحتاج لنفس كمية السمن. وعن سر الصنعة واختلاف طعم الكنافة من محل لآخر يقول الحاج عتريس: الفارق في العجين نفسه وهو ما تحكمه الخبرة حيث يستطيع تحديد كثافة العجين بالنظرة وكذا مدة التسوية. وقد ورث الحاج عتريس المهنة أبا عن جد، حيث يعمل بهذه المهنة منذ أكثر من ستين عاما، ولا تزال الصنعة ممتدة لأبنائه وأحفاده الذين حصلوا علي شهادات عليا إلا أنهم يحبون صنعة الكنافة ومستمرين بها.. ويحرص الحاج عتريس علي متابعة سير العمل بنفسه بداية من العجين والتسوية داخل المصنع الذي يبتعد عن المحل ببضعة شوارع، قبل أن ينزل إلي المحل لمتابعة عملية البيع ومراضية الزبون بالكلمة الطيبة وبتوفير البضاعة، حيث يعمل المحل 24 ساعة بلا توقف، وغالبا ما يفطر الحاج عتريس في المحل وسط العمال . وعن اختلاف حركة البيع في رمضان يقول الحاج: لاشك أن هناك ضغطا في رمضان لا سيما العشرة أيام الأولي، لذا لابد من التجهيز لتلك الفترة من خلال وجود عمالة أكثر وتجهيز الخامات قبلها بفترة، حيث يقول: لا أحبذ أن أحضر الدقيق من المطحن للعجين، لابد أن يستريح الدقيق. وعن تطور الصنعة نفسها يقول عتريس: كانت الأدوات عبارة عن كوز مصنوع من النحاس، الآن أصبح الرشاش بديل الكوز اليدوي مصنوع من الاستانلس ستيل والوقود من الغاز الطبيعي بعد أن كنا نستعين بالفحم، كذلك كانت هناك فترة نصف الآلي حيث كانت صينية التسوية تعمل بموتور وتلف بينما يقف الصانع بالكوز قبل أن يقوم بلم العجين بنفسه. ومن منطقة السيدة زينب إلي منطقة تحت الربع بباب الخلق تلك المنطقة التي تشتهر ببيع الفوانيس، وحيث محلات أبو خشبة أشهر صناع الكنافة بالمنطقة أبناء الحاج سعيد أبو خشبة والذين يمتلكون أكثر من محل بالمنطقة، وهم أيضا متخصصون ببيع الكنافة طوال العام، ليس فقط للأفراد ولكن أيضا للحلوانية، ويأتيهم زبونهم خصيصا من مختلف الأماكن.. وقد لفت انتباهي عندما دخلت المحل مجموعة من الصور الفوتوغرافية المعلقة علي الحائط حيث تتوسط صورة المرحوم الحاج سعيد أبو خشبة صور للملك فاروق وكذلك لجمال عبد الناصر وأنور السادات من جهة أخري.. ويعرف المحل باسم كنفاني الجمهورية أو كنفاني أولاد أبو خشبة. ويستعيد علي ذكريات الماضي قائلا: لقد كنا نعمل جميعا كنافة يدوي، وكنا نطلق علي الكوز النحاس الجوزة ومتدلي منها عدد من البلابل التي نرش بها الكنافة، وكانت الكنافة تنزل علي الصينية الساخنة، وكنا في البداية نستخدم الخشب ثم الفحم قبل أن ننتقل إلي الجاز وبعدها إلي الغاز الطبيعي، وكانت الصينية من النحاس لابد من مسحها بقطعة قماش ونقطة زيت حتي لا تلتصق بها الكنافة. خمسة أخوة يعملون بالمهنة التي توارثوها أبا عن جد، ويري »علي» أن هذه المهنة تحتاج لمن يحبها لأنها مهنة صعبة تحتاج مجهودا كبيرا وساعات طويلة من الوقوف.. وربما لهذه الأسباب اندثرت الكنافة البلدي.. وخلال رمضان يبدأ عمله من العاشرة صباحا التي تمتد حتي أذان الفجر حتي أنه يفطر بالمحل. وعن اختلاف الحال يقول علي أبو خشبة: لقد اختلف الزبون، فلم يعد لديه صبر، إلا أنه يبتسم ويقول: زبائني كثير منهم لم يتغير لسنوات طويلة، فزبوني ذواقة يستمر معي العمر كله.. وبخلاف ذلك كان المحل يقدم قديما كنافة حلوة وكان الكيلو بجنيه. وعلي مسافة غير بعيدة وتحديدا في ميدان باب الخلق يقع محل فطاطري أبو خشبة الذي يعود تاريخه إلي عام 1942، وهو من أشهر صناع الفطير في منطقة باب الخلق، وقد اشتهر المحل بتقديم الفطير الشرقي إلا أنه يغير النشاط في رمضان ليتحول لبيع الكنافة والقطايف خلال موسم رمضان فحسب.. يقول الحاج سامي ياسين أبو خشبة الذي يبلغ من العمر 62 عاما: في رمضان نقدم فقط الكنافة والقطايف ونبدأ بعمل الكنافة قبل الرؤية بيومين، وقد تحول الحاج سامي مثله مثل سائر المحلات من الكنافة اليدوي إلي الكنافة الآلي قائلا: كل شيء تغير، كان لكل شيء طعم، تغيرت الأحوال، حتي صنعة الفطير أيضا لم تسلم من التغيرات وخاصة مع دخول البيتزا.. يقول كان للفطير رونقه، كان سادة ومشلتت أو ببيض وتقلية فقط الآن أصبح هناك البيتزا الإيطالي وكثير من المكونات كاللحوم والتونة وغيرها.. وتشهد المهنة ركودا يستشعرها الحاج سامي قائلا هناك فارق كبير ربما بسبب الحالة الاقتصادية كان الزبائن يجتمعون بالساعات للحصول علي طلباتهم، إضافة لذلك يقول سامي: أولادي كلهم رافضين مهنة الفطير المتوارثة أبا عن جد. ومع تخلي شيوخ صنعة الكنافة عن الكنافة اليدوي في مقابل الآلي، كانت المؤشرات كلها تدل علي انقراض الكنافة البلدي تقريبا، إلا أنني عثرت بعد بحث طويل علي حمادة عبد الجواد بمنطقة البيباني بآخر سوق المغربلين الذي لا يزال يقف حاملا الكوز النحاسي ليصنع الكنافة اليدوي.. رافضا أن يستخدم الكوز الصاج قائلا: لقد اعتدت علي وزن الكوز النحاس رغم أنه أثقل.. ويحرص أصحاب المحل علي الحفاظ علي تلك العدة النادرة من عام لآخر لأنها لم تعد موجودة في الغالب. وقد تعلم عبد الجواد المهنة علي يد الحاج حسن علي المهدي صاحب المحل، وهو أيضا فطاطري معروف ببيع الكنافة والقطايف فقط في رمضان.. يقول حمادة: كان الحاج رحمه الله لا يبخل بتعليم صبيانه أسرار الصنعة وقد تعلمت علي يديه عمل الفطير وكذلك الكنافة، وقد أحببت المهنة للغاية رغم مشقتها لذا لا زلنا نحرص علي بيع الكنافة البلدي كطقس أساسي من طقوس رمضان، ولنا زبون خاص الذي يأتي خصيصا لشراء الكنافة اليدوي.. وأكثر من يسأل عليها كبار السن، فهناك من يفلفلها بسكر خشن وسمن كالشعرية. ويقطن حمادة في حلوان.. ويكون عليه أن يقطع كل تلك المسافة يوميا من منزله حتي مقر عمله لذا لا يتمكن من الافطار مع عائلته طوال الشهر، كذلك فإن عليه أن يتحمل درجة الحرارة الشديد وهو صائم.. إلا أنه يجد متعة خاصة في استمراره في عمل الكنافة اليدوي التي تشعره بروح رمضان.