قد يتعذر تذكر بدايات الأشياء، كأول كتاب قرأته، أو أول مرة أمسكت فيها القلم وكتبت كلمات تخصك. ثمة صور تتداعي دائما توحي بأنها البدايات، صور مختلطة، بمجرد أن تتراءي لك، تدرك أن هناك مقدمات سبقتها ولكنها سقطت في عتمة الذاكرة. أما فيما يتعلق بالموسيقي فالأمر يختلف، وتحديدًا، متي أدركت حاجتي الملحة لها؟ فعند هذا السؤال، يظهر أمامي مشهد واضح، بكامل تفاصيله، ربما لأنه يشكل -بالنسبة لي- حدا فاصلا بين حياتين، ما قبل الموسيقي وما بعدها. ذات يوم، كنت منغمسة في العمل -أنا ممن تستغرقهم الأشياء- وكنت قد انتهيت بالفعل من الكثير، ولا يزال أمامي الكثير، كنت مثقلة، هذا ما لم أكن أعيه لولا أن انسابت الموسيقي فجأة في المكان، ووجدتني ارتكن بكفي علي ذراع المقعد بعد أن تراخت أصابعي علي القلم، القلم الذي سقط بفعل التراخي. بوسعي أن أصف ما أحسسته حينها، لقد انتبهت لخبط قوي في رأسي، كان موجودا طيلة الوقت، ربما ذلك الوجود المستمر هو ما يطمس وطأة الأشياء، مثلما يحدث حين ينام العامل ملء جفنيه علي الرغم من هدير الآلات، إنها تلك الألفة التي تأتي تدريجيا مع تصاعد المنبهات! ما حدث يومها كان معجزة بالنسبة لي، شيئًا فشيئًا تراخت المسافة بين كل خبطة وخبطة، وكلما اتسعت المسافة والتقطتُ أنفاسي، أدركت كم كان بشعًا التواءم مع هذا القدر من التشوش. بعد عدة دقائق توقف الخبط تماما وانبسط شيء كان معقودًا بقسوة بين حاجبي، ثمة رفة لجناحين، أزعم أني سمعتها بأذني ورأيتها عبر عينين نصف مغمضتين! هذا اليوم اعتبرته بداية لتأريخ موسيقي، وفاصلا بين مرحلتين، لقد أدركت مدي حاجتي لهذا اللون من التعبير، وعرفت وسيلتي للتغلب علي فائض القلق الذي يتحول دون وعي مني إلي خبطات تشبه المطارق فوق جمجمتي مباشرة. يبدو الإيقاع وكأنه جوهر كل شيء، ما علينا سوي أن نحسن الإصغاء، فهذا ضجيج لابد من إخضاعه، ليس بعنف ولكن بتؤدة، حينها ندرك مدي هشاشته وكم كان سهلا محاولة اختراقه، فلم يكن إلا خليطًا من الأصوات! الخارج والداخل كأنهما وجهان لعملة واحدة، فكما يخترقك الضجيج عبر وسيط من الأشياء التي دفعت ثمنها من جيبك الخاص لتصبح هاجسك الطنان ليل نهار، كصوت الثلاجة، ماتور المياه، تكتكات عقارب الساعة، خروشة أدواتك، أثاث بيتك، هاتفك. كيف رضينا بالتعايش مع كل هذا الصخب! أيضًا هناك جلبة تأتي من الداخل، ذلك السرد المتصل المصحوب بالصورة لشريط حياتي، جملٌ تعلق دائما من حوارات آخرين، جملة بعينها تتردد كما لو أنها ترتطم بألف حائط، السرد الداخلي يصطحبك ليل نهار، ولا يكف عنك حتي عند النوم، نحن مسحوقون بينهما! كيف يتسني لك الضغط علي زر ما لإيقاف هذا؟ هل لتلك الكتلة الصلبة من الأصوات، تفريغ ما؟ كيف يمكنك تذويبها؟ والانتباه لإيقاع آخر من القرب بحيث لا يمكنك الالتفات له، إيقاع في كل شئ، ألتقطه بمجرد أن أحسن التغلب علي ذلك الحاجز من التنافر الصوتي، أخفت من صوت البائع في الصباح، إنه لطائر مرق قرب نافذتك صادحًا بنغمة ما، قد تكون الأرض عاكسا قويا للأصوات، ولكنك إذا ما روضت أذنك، ودربت حواسك علي الالتقاط، أمكنك تذويب الجميع وسماع الإيقاع وحده، لقد وجدت في الموسيقي ضالتي للانتصار علي كل هذه الأشياء. استيقظ من النوم علي صوت الموسيقي التي نمت علي وقعها بالأمس، خيط رهيف أدي مهمته كما ينبغي وسحبني بهدهدة إلي النوم، أرغمني علي التمايل ولو برأسي وأنا أعد الفطور وأشرب فنجان قهوتي الأول، علي جعل تفاصيل يوم آخر أكثر احتمالا، لقد بات اليوم بالنسبة لي نوعاً من الضجيج يجري علي خلفية موسيقية.يصعب أن تكون الأغنية خلفية مثالية للكتابة كما يزعم البعض، كلمات تتداخل مع كلمات، يستحيل مثلا أن تتنصر لصوتك علي حساب صوت شادية أو فريد أو وديع أو فيروز! ولكن الأمر يختلف تماما مع الموسيقي، علي الرغم من عدم قدرتي علي فرضها في محيط الأسرة بسهولة، فشريكي مولع بالغناء، والكارثة الكبري أنه لا يكتفي بصوت المطرب، بل يحلو له أن يدندن معه! أما مع الموسيقي، فالفرادة تكمن هنا في التجاوب مع الإيقاع، أن تنم كتابتك عن خلفية موسيقية، وبخاصة في الشعر، وهذا لا يعني أن وسائل التعبير الأخري ليست بحاجة إلي ايقاع، أري أن نطق الكلمات في حديث عابر يحتاج إلي إيقاع ما، اللغة العربية مكتنزة بالإيقاع، أحيانا لا نستطيع الإمساك بالمعني في الشعر بالذات، ولكنه الإيقاع بوسعه أن يقف وحده ويطرب الأذن ويصنع القصيدة. لا أقصد بالطبع الأوزان التقليدية التي تخلص منها الشعر عبر عقود من التجريب، فالإيقاع ليس شكليًا، كما الوزن، الإيقاع لا يحتاج وسيطا للظهور، بل بالأحري ليس له وجودا ماديًا علي الإطلاق، وهذا ما يجعلنا نندهش عند سماع جملة عابرة بقي صداها مترددا داخلنا لفترة طويلة! لذا أجد صعوبة في تصديق أن كاتبا ما لا يستمع إلي الموسيقي، الفن في مجمله خرج من نبع واحد، وخضع في صيرورته –مثله في ذلك مثل كل المخلوقات والحيوات- للتنوع والتشعب، كما تجول عيناك بين أوراق خضراء لأشجار متجاورة، فعلي الرغم من التجاور، تتعدد صور الاختلاف. من بين كل ألوان التعبير اخترت لنفسي الموسيقي، والأدق أنها اختيرت لي، لا أجدها مصادفة أن تنساب الموسيقي في المشهد الذي ذكرته، إنها هبة السماء، ففي لحظة إدراكي بوجود مسافة فاصلة بيني وبين نفسي، وأن أخري هي حقيقتي تقبع متربصة في الظلام، كنت قد اجتزتها بالفعل والتقيت بها وجها لوجه. منذ ذلك اليوم وأنا أرهف السمع بحثا عن الإيقاع، ولي معه موعدان لا نخلفهما أنا أو هو، بعد شروق الشمس وقبل الغروب، حيث تعودت الطيور أن ترقص قرب شرفتي خلف موسيقي غامضة!