إن المأزق الحالي الذي تعيشه مصرنا الحبيبة ، وما ينتظر هذا البلد الحبيب إلى نفوسنا جميعاً – سواء بقي مبارك أم رحل – من أزمات ومحن تغير وجه هذا البلد ، لهو مأزق جدير بالتأمل وإعمال العقل قبل إعمال العواطف . إننا – من وجهة نظري الخاصة – قد انتقلنا من ديكتاتورية إلى أخرى ، من ديكتاتورية النظام وفرض رأيه بالقوة إلى ديكتاتورية المعارضة وإرغام الجميع على فرض رأيها بالقوة ، تحولنا من نفاق الحكام ومداهنتهم إلى نفاق المتظاهرين واستجلاب تعاطفهم ومحاولة كسب ودهم . لقد بدأت تظاهرة 25 يناير بمطالب محددة هي حل مجلس الشعب المزور وإقالة وزير الداخلية السابق ، وسارت هادئة بلا قوى سياسية فاعلة أو بمشاركة رمزية منها ، وكان من الفطنة من النظام الحاكم أن يخرج أحد أقطابه إلى تلك الجموع – التي كانت قليلة يومئذ – ويخاطبهم ويناقش معهم مطالبهم ، لكن الغرور ركب النظام وظنها تظاهرة مثل ما سبقها ستطلب بعض الإصلاحات ثم تنصرف ، وهكذا ظنتها أيضاً كافة القوى السياسية فلم تعول عليها كثيراً . لكن ما إن دعا هؤلاء الشباب على الفيس بوك – وخاصة جروب " كلنا خالد سعيد " - إلى جعل الجمعة 28 يناير " جمعة الغضب " إلا وهبت كل القوى السياسية إلى الاجتماع وإعلانها المشاركة في جمعة الغضب ، كلهم ركبوا الموجة ، كلهم – لا أستثني منهم أحداً – استغل صلف النظام وغروره وحماس الشباب المتقد الذي يحب بلده لكنه يفتقد القائد السياسي المحنك البارع ، وشارك في جمعة الغضب ، ولأن النظام – حتى تلك اللحظة – لم يفهم الرسالة جيداً ، فلم تكن استجابته على مستوى الحدث ، فثارت جموع المتظاهرين وطالبوا بكل شئ ، كل شئ ، من أصغر مطلب إلى أكبر المطالب وهو إسقاط النظام . وبدأت المطالب تتحقق شيئاً فشيئاً ، حتى تم تعيين نائب للرئيس ، وبالتالي سقط ملف التوريث من شاهق ، قد يكون نائب الرئيس يحمل نفس أجندة الرئيس – وهو بالقطع يحملها – لكن العجلة دارت ولا يمكن لأحد إرجاعها إلى الوراء ، ثم كانت المظاهرات المليونية يوم الثلاثاء 1 فبراير ، وكانت نموذجاً رائعاً للتظاهر ، علّم العالم كيف يكون المواطن المصري الحقيقي في تظاهره الراقي ، وجاء المساء وحلت الساعة الحادية عشرة ، كان العالم كله والشعب كله – إلا ما ندر – في صف هؤلاء الفتية الشجعان البواسل الذين يغيرون وجه الوطن إلى أبهى صورة ، وظهر الرئيس مبارك كما لم يظهر من قبل ، منكسراً ، يطلب من شعبه أن يتركوه – حفظاً لماء الوجه – حتى نهاية ولايته بعد شهور ، طلب أن يبقى لكي يموت في بلده ويدفن في ترابه ، خطاباً مستعطفاً لرجل انتهى سياسياً بالفعل ولم يبق له شيئ إلا مثل ما بقي لأبي سفيان عام الفتح ، كان ينتظر أحداً يقول له : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " ، كان ينتظر الجموع الهادرة – ومن ركب موجتها – أن يتركوه الشهور القليلة القادمة ، نعم أخطأ كثيراً ، نعم أساء إلى شعبه كثيراً ، نعم ارتكب أموراً تعد من الكبائر ، لكن مروءة الإسلام علمتنا أن " نكرم عزيز قوم ذل " ، لكن الرغبة في الانتقام والتشفي وأخذ الثأر غلبت الجميع شباباً وقوى سياسية ، نسوا – أو تناسوا - أن ما بعد 25 يناير لن يكون أبداً مثل ما قبله ، نسوا – أو تناسوا – أن الرجل العسكرى من الصعب عليه أن يطرد شر طردة ، أرادوا أن يستنسخوا التجربة التونسية كما هي ، وأن يركب مبارك طائرته ويفر هارباً ، نسوا - أو تناسوا - أن الشعب المصري عاطفي بطبعه ، وأن الخطاب الملئ بالشجن من الرئيس مبارك استدر تعاطف المعارض قبل المؤيد . كان من الممكن للشباب المحتشد – وقتها – أن يعلن عودته إلى البيوت ، وقد حقق ما أراد قبل 25 يناير وأكثر ، لكن النافخين في النار رفضوا العودة - وأشعلوا حماسة الشباب المتحمس من تلقاء نفسه - إلا بعد رحيل مبارك . هنا كانت الكارثة التي تحدث الآن ، اشتباكات بين أبناء الوطن الواحد لا يعلم نتيجتها إلا الله ، خسر أصحاب الحق - اليوم - الكثير مما اكتسبوه حتى مساء الأمس ، وقد يخسرون أكثر إن ظلت الأوضاع كما هي – سواء بقي مبارك أم رحل - ، وخسرت القوى السياسية جميعها - إلا حزب الوفد الذي أعلن ترحيبه ببيان الرئيس مبارك كخطوة أولى نحو الإصلاح المنشود – الكثير والكثير . في القلب غصة من الصعب أن تزول ، في الحلق مرارة الخائف على بلده ، في الصدر آهات كثيرة آمل أن لا تزيد ، لكن الأيام القادمة ستكشف أستارها عن المخبوء فيها ، ويومئذ يعرف كل واحد موقفه ، ويعيد كل واحد ترتيب حساباته ، لكن بعد أن يكون أهل اليمامة قد فقأوا عيني ابنتهم " زرقاء اليمامة " يوم أن تحدثت عن مسيرة الأشجار .