البابا شنودة مع كامل الاحترام لمقام البابا شنودة وهو مقام رفيع فعلا، ومن موقع المحبة لما تمثله الكنيسة القبطية في تاريخ مصر، يصبح من الواجب أن نقول أن قداسة البابا كثيرا ما أصبح يستخدم الأداة الخطأ في المعركة الصحيحة، والوسيلة الفاسدة في الميدان السليم. أما المعركة الصحيحة - إن جاز أن نسميها معركة - فهي سعي المواطنين المصريين من الأقباط لإزالة عدد من مظاهر التمييز التي تراكمت عبر عصور عديدة، وسعيهم لمزيد من المشاركة والحضور علي المستوي الاجتماعي والسياسي وربما الفني والثقافي، والحقيقة أن المشكلة ليست علي الإطلاق فيما يطالب به الأقباط المصريون سواء كان طلبا عادلا يوافقهم عليه إخوانهم المسلمون، أو شططا من البعض ناتجا عن حساسية تاريخية وطائفية مثل الحديث عن أسلمة القاصرات، إلي غير ذلك من الظواهر التي لايوجد مسئول واضح عنها وتلقي برمتها علي عاتق (المسلمين) ككل. لغة طائفية المشكلة ليست في المطالب إذن ولا فيمن يطلبها بكل تأكيد، ولكن في اللغة التي باتت تسيطر علي الخطاب القبطي وهي لغة خاطئة في المقام الصحيح، هي مع كامل الاحترام مرة أخري لغة طائفية لا تؤدي الغرض ولا توصل الرسالة، وتحدث من الضرر أضعاف ما تحدث من النفع.كان من اللافت للنظر للغاية ذلك الحوار الذي انفلتت فيه كلمات الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس وتحدث عن أن الأقباط هم أصحاب البلد الأصليون! وأن المسلمين ضيوف عليهم! فضلا عن استدعائه لعصور الاضطهاد الروماني للكنيسة القبطية المصرية! ولم يكن هذا سوي حديث يمكن وصفه بالطائفية، يضع الأقباط في موضع الطائفة التي تري نفسها أحق بالاستئثار بالوطن، ويستدعي تراثا دينيا استشهاديا في مواجهة أوضاع هي بالضرورة أوضاع مدنية سياسية يمكن علاجها بما هو مدني وسياسي وحقوقي.وكان من اللافت للغاية للنظر -أيضا - أن قداسة البابا في محاولته لإصلاح الأثر السيئ الذي أحدثته هذه التصريحات قد أطلق تصريحا لايقل طائفية قال فيه (بل نحن الضيوف والمسلمون هم الأغلبية)!! والأكيد أن المسلمين هم الأغلبية ولكن الأكيد أيضا أنه لا المسلمون ولا الأقباط ضيوف علي مصر، ولم يكن تصريح قداسة البابا الذي سعي فيه لتطييب خواطر المسلمين سوي رد فعل لطريقة تفكير طائفية تري أن المسلمين طائفة مخالفة أكبر عددا، ولهذا فإن من حقها أن تحكم كطائفة، وكان السلاح الغائب عن هذه المعركة الخاسرة علي الجميع هو سلاح المواطنة التي نصت عليها المادة الأولي في الدستور المصري والتي تنص علي المصريين متساوين في الحقوق والواجبات، والتي تري أيضا أن أي مصري أو مجموعة من المصريين من حقهم أن يحكموا مصر طالما توافرت فيهم الشروط السياسية الواجبة دون نظر للدين أو للون أو للعرق، هذه المادة والمعني الحديثان لايمكن أن نطلب من المصريين أن يؤمنوا بها مادام الرمز الأكبر للأقباط المصريين يبدو أنه لايؤمن بها وربما لا يراها من الأساس، حيث يغيب الحديث عن المواطنة من خطاب قداسة البابا شنودة غيابا كاملا وبما يكاد يكون نافيا لوجودها في تفكيره من الأساس. عصر الشهداء بل إن تحليل التصريحات الأخيرة لقداسة البابا يشي بنزعة من شأنها أن تستدعي نزعة طائفية في الاتجاه المعاكس، وهو ما لا نحبه ولا نرضاه لمستقبل هذا البلد، ومالا نتوقعه من قداسته ..لقد كان من اللافت للغاية اللغة الحماسية والاستشهادية أيضا التي استخدمها قداسة البابا في حديثه عن المتهمين في أحداث العمرانية حيث قال إنه (سيفتديهم بدمه) و(بحياته)، وتصاعد الحديث مرة أخري عن الشهداء والشهادة مع ما للفظ من خصوصية زائدة في التراث القبطي، وكان أن صرح قداسة البابا مرة أخري في فورة غضبه (لن نترك دم شهداء العمرانية)! وهي أيضا عبارة لا تفيد سوي الثأر وطلبه وهي بشكل عام مستوحاة ومقتبسة من لغة أهلنا في الصعيد حيث تتصاعد دعاوي الثأر والقصاص، وكان بإمكان فضيلة البابا - وغيره من الأقباط أيضا - أن يطرحوا قضية متهمي العمرانية باعتبارهم مواطنين مصريين تم حبسهم في ظرف استثنائي - من وجهة نظرهم - وأن يطالبوا بالإفراج عنهم، وكان يمكن لعشرات المحامين من الأقباط- والمسلمين - بكل تأكيد أن يبذلوا جهودا كبيرة للإفراج عن هؤلاء المتهمين ولتبرئتهم من الأساس باعتبارهم مواطنين مصريين نسبت لهم أعمال شغب ومقاومة للسلطات. المجتمع المدني وكان يمكن تجييش العشرات من منظمات المجتمع المدني الحقوقية وغير الحقوقية للتعامل مع هؤلاء باعتبارهم مواطنين مصريين مطلوب الإفراج عنهم سواء بحق أو بغير حق، لكن قداسة البابا ربما بحكم موقعه الروحي الكبير فضل استدعاء مفردات عصر الشهادة والفداء والدم تاركا مبدأ المواطنة الذي عليه أن يدعمه وأن يذكره آناء الليل وأطراف النهار حتي يتحول من فكرة إلي حقيقة واقعة. ولأن كثيرا من الخطاب القبطي الذي يتصدر المشهد بات دينيا وطائفيا بامتياز كان أن فضل قداسة البابا الاعتكاف في دير وادي النطرون، وهو طقس ديني أصبح متعارفا عليه كوسيلة للاحتجاج السياسي، وهنا جاء الدين مرة ليبتلع أفكار ومفاهيم النضال المدني والسعي لإقرار فكرة المواطنة من الأساس مرة أخري. علي أن هذه العقلية والتي من شأنها أن تكرس الأزمة لا تنعكس فقط في تصريحات أو مواقف يفهم منها الهجوم علي الآخر أو أبناء الطائفة الأخري وفق المفهوم الطائفي، لكنها تمتد أيضا لتصريحات يراد منها المجاملة أو إبداء لين الجانب مثل استبعاد قداسة البابا لأن يأتي قبطي في منصب رئيس الجمهورية حيث يشرح قائلا (الغالبية العددية ليست قبطية، ولا يصح أن يأتي قبطي من الأقلية العددية ويرأس الأغلبية)!!، ولعل تصريحا مشابها بالكلمة والحرف، وعلامات التنصيص والإشارة، فضلا عن المنطق، قد ورد علي لسان المرشد العام للإخوان المسلمين، فضلا عن أن التصريح يكاد يكون مقتبسا من برنامج الجماعة الذي هُوجم من المسلمين قبل المسيحيين، لكنه المنطق الطائفي الذي لا يعرف للمواطنة معني سواء علي هذه الضفة أم تلك. وفاء وكاميليا هذه العقلية القبلية أيضا هي التي وقفت وراء أزمتين كبيرتين وسخيفتين أيضا تتعلقان بما قيل عن إسلام المواطنتين وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، وما سبقه وما تبعه من إساءات وسخافات نالت جميع الأطراف، والحق أن الكنيسة لو نظرت بعين المواطنة - التي هي في صالح الأقباط قبل أي أحد آخر-لأدركت أن الحرية الشخصية والحق في الاعتقاد هما أبسط معاني هذه المواطنة التي كان يجب تطبيقها علي السيدتين، إذا ما تم التعامل معهما كمواطنتين حرتين وليس كإناث في القبيلة القبطية أو حتي كأفراد في طائفة يقرر مصيرهما زعيم الطائفة لا إرادتهما الحرة. يخسر الأقباط المعركة العادلة إذا ما أصروا علي إغماد أدوات المواطنة وإشهار وسائل الطائفية لأن تلك تستدعي طائفية مضادة، وهو ما لا نحبه ولا نتمناه لهذا الوطن.