كان من دواعى الزهو والتيه والإحساس بالفخر أن أبدأ رحلتى فى التأليف الدرامى بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى «تحقيق» المأخوذ عن قصة قصيرة بنفس الاسم لأستاذنا الكبير «نجيب محفوظ» والتى نشرت ضمن المجموعة القصصية «الجريمة».. وكان نجاح الفيلم من خلال ردود الأفعال الجيدة تجاهه من قبل النقاد والمتلقين فى ذلك الوقت دافعاً قوياً وحافزاً كبيراً لى على الاستمرار والتواصل واكتساب الثقة خاصة أن القصة كما كتبها أديبنا الكبير كانت صعبة التحول إلى عمل مرئى وبالتالى تمثل لى تحدياً واختباراً فى مدى قدرتى على التوصل إلى بناء درامى مختلف عن السياق المكتوب بالقصة مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكرى المهم فى نفس الوقت. فالقصة بطبيعة شكلها الملغز القائم على تداخل الأزمنة والأمكنة.. ونفى منطق التتابع الذى لا يعتمد على التسلسل التقليدى والحبكة المرتبطة ببداية ووسط ونهاية ورسم الشخصيات الملتبس واختلاط مستويات الحدث، وغموض المحتوى الذى يحتوى على نهاية غريبة ويضفى على القصة كلها شكلاً عبثياً وإطاراً رمزياً يعكس كما تعكس المجموعة القصصية كلها اتجاها فريداً فى أسلوب نجيب محفوظ مغايراً لطبيعة قصصه السابقة المعتمدة على البناء الكلاسيكى المحكم. حينما عرض الفيلم بالتليفزيون سأل الناقد «محمد صالح» الأستاذ عن رأيه ملمحاً أن السيناريست قد غير كثيراً فى أحداث القصة ورسم الشخصيات والنهاية وحول اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب اللامعقول إلى فيلم معقول فأكد له الأستاذ: حسناً ما فعل فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية أخرى لى هى «شهر العسل» بنفس طريقة الحكى والبناء العبثى فأغلق الناس التليفزيون. يؤكد هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك الفروق الجوهرية بين لغة الأدب واللغة المرئية وأن القصة أو الرواية المقروءة تختلف اختلافاً كبيراً فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة ومن ثم فإن السيناريو فن قائم بذاته ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معد أو ناقل أو محاك للرواية الأصلية وإنما هو ينشئ عالما كاملاً يوازى عالم الروائى.. يتفق معه فى المضمون الفكرى لكنه يختلف عنه فى وسائل التعبير ولم لا.. والأستاذ مارس كتابة السيناريو والحوار لأكثر من أربعة عشر فيلماً منذ الأربعينيات.. وإن كان كما صرح للناقد الكبير «رجاء النقاش» فى كتابه المهم عنه أنه لم يكن سعيداً بكتابة السيناريو.. وأنه كان يمارس ذلك الفن كوسيلة للصرف على الأدب.. عالمه الأثير.. ويقارن بين العمل فى السينما والخلق الأدبى حيث إنه فى الأدب رب عمله لكن العمل السينمائى عمل جماعى، بالإضافة إلى سيطرة الطابع التجارى ورغبات المنتجين وأهواء الموزعين وإعادة تفعيل الأدوار تبعاً لأفكار وميول الممثل المحبوب أو الممثلة المحبوبة. ثم أسعدنى الحظ مرة ثانية بتحويل قصته «أهل القمة» والتى سبق تقديمها فى فيلم سينمائى أخرجه «على بدرخان» إلى مسلسل تليفزيونى.. ثم أسعدنى الحظ مرة ثالثة فكتبت السيناريو والحوار لرائعته «حضرة المحترم» فى مسلسل تليفزيونى. وكان دافعى إلى كتابة مسلسل «أهل القمة» أن صورة الفساد التى جسدها الأستاذ فى قصته.. وكما ظهرت فى الفيلم والتى توقفت عند مجرد الاتجار فى البضائع المهربة على إثر تطبيق سياسة الانفتاح.. هذه الصورة قد تفاقمت فيما بعد وتمخضت عن أشكال فساد أكثر بشاعة وتأثيراً.. فحاولت تقمص دماغ الأستاذ وأتصور كيف يمكن أن يعالج قصته بعد مرور عشرين عاما على إنتاجها فى فيلم فرأيت أن لص المحافظ ونشال الأتوبيسات «النورى» قد تحول فى المسلسل إلى رجل أعمال محترف.. حوت من حيتان الشريحة الجديدة لطبقة المليونيرات الذين يسرقون أراضى الدولة وملايين البنوك. فى كتابه البديع الأخير «شخصيات لها العجب» يرسم الكاتب الكبير «صلاح عيسى» بورتريهات فنية لشخصيات عامة من النخب السياسية والثقافية التى اقترب منها بنحو أو بآخر.. فى فصول تجمع بين الذكريات والتراجم والدراسات والوثائق.. يحاول أن يقرأها من الداخل ويبرز ما فيها من أضواء وظلال وشجاعة وحماقة وإقدام وتراجع وعطاء وأنانية.. ويخصص فصولاً لسبع شخصيات روائية تنتمى لعالم «نجيب محفوظ» تعكس رؤيته النافذة والبصيرة لما كان يجرى على مسرح الزمان الذى أعقب ثورة يوليو.. وهذه الشخصيات هى «سعيد مهران» فى «اللص والكلاب» و«عيسى الدباغ» فى «السمان والخريف»، و«عمر الحمزاوى» فى «الشحاذ»، و«صابر الرحيمى» فى «الطريق»، و«أنيس زكى» فى «ثرثرة فوق النيل»، و«سرحان البحيرى» فى «ميرامار»، و«صبرى جاد» و«عبدالرحمن شعبان» فى «المرايا». والحقيقة أن تحليل «صلاح عيسى» لأبعاد تلك الشخصيات الاجتماعية والنفسية والفكرية هو تحليل بالغ العمق والدلالة، فهو يسبر أغوار الشخصية بذكاء نفاذ، ويعيد قراءتها وتفسير نوازعها وتشكيل دوافع سلوكها واستخلاص معنى وجودها.. وفك ألغاز حيرتنا تجاهها وكأنه مبدعها وصانع أحداث حياتها والمسئول عما آل إليه مصيرها.. ويربط بين التركيبة النفسية للشخصيات وبين الحتمية الاجتماعية والإطار التاريخى الذى تتحرك فيه دونما أن يصدر أحكاماً أخلاقية عليها.. وبأسلوب شديد الجاذبية والإمتاع لا يخلو من طرفة ولا تنقصه سخرية رقيقة محببة. يرى «صلاح عيسى» مثلاً فى شخصية «سعيد مهران» أنها تنويعة أخرى على ذلك النمط من اللصوص وأولاد الليل الذين حولتهم المخيلة الشعبية من قطاع طرق إلى أبطال ومن لصوص إلى مناضلين.. ويبرز التعاطف الشعبى معه - بالرغم من كونه قاتلاً مجرماً - على اعتبار أن المصريين عموماً يقدسون علاقة العيش والملح ويزدرون خيانة علاقات الصداقة والإخوة. بقى أن أطالب مخلصاً أن يصدر قرار وزارى من قبل وزير الثقافة بتحطيم تمثال «نجيب محفوظ» المقام فى ميدان «سفنكس» - ليس استجابة لممارسات متطرفى «طالبان» أو استجابة لفتوى الشيخ «حسان» بتحريم ظاهرة التجسيم لأشخاص - ولكنه استنكار لسوء التجسيد وافتقاره إلى أبجديات العمل الفنى وأصوله ونسبه فالتمثال يبرز «نجيب محفوظ» كضرير يرتدى نظارة تخفى عينيه، ويمسك بعصا يتحسس بها طريقه، ويخلو من الجمال الفنى والقدرة على التعبير عن شخصية الكاتب الكبير.. ويعكس ضعف موهبة المثال وفقر إحساسه الفنى وجهله الفادح بقيمة وقدر ومكانة الكاتب العظيم. ويبدو التمثال وكأنه شاهد على الإساءة لفن النحت ذاته مثله مثل تماثيل «طه حسين» برأسه الصغير كالبيضة وردائه الغريب وقدميه الحافيتين.. وتمثال «أحمد شوقى» الذى يجلس فى وضع غريب وكأنه يقضى حاجته.. ويبدو أن تلك التماثيل قد صنعها مثال واحد، ولا أدرى هل عقمت مصر من مثاليها الكبار حتى يعبث الصغار برموز ثقافتنا المعاصرة؟!