كان من دواعى الزهو والتيه والإحساس بالفخر أن أبدأ رحلتى فى التأليف الدرامى بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى «تحقيق» المأخوذ عن قصة قصيرة بنفس الاسم لأستاذنا الكبير نجيب محفوظ.. والتى نشرت ضمن المجموعة القصصية «الجريمة»... وكان لنجاح الفيلم من ردود الأفعال الجيدة تجاهه من قبل النقاد والمتلقين فى ذلك الوقت دافعا قويا وحافزا كبيرا لى على الاستمرار والتواصل واكتساب الثقة.. خاصة أن القصة كما كتبها أديبنا الكبير كانت صعبة التحول إلى عمل مرئى.. وبالتالى تمثل لى تحديا واختبارا فى مدى قدرتى على التوصل إلى بناء درامى مختلف عن السياق المكتوب بالقصة مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكرى المهم فى نفس الوقت.. ذلك أن القصة بطبيعة شكلها الملغز القائم على تداخل الأزمنة والأمكنة، ونسف منطق التتابع الذى لا يعتمد على التسلسل التقليدى والحبكة المرتبطة ببداية ووسط ونهاية، ورسم الشخصيات الملتبس، واختلاط مستويات الحدث، وغموض المحتوى الذى يحتوى على نهاية غريبة، ويضفى على القصة كلها شكلا عبثيا وإطارا رمزيا.. يعكس-كما تعكس المجموعة القصصية كلها-اتجاها فريدا فى أسلوب نجيب محفوظ مغايرا لطبيعة قصصه السابقة المعتمدة على البناء الكلاسيكى المحكم.. حينما أسترجع تلك الأيام فى بداية الثمانينيات أتذكر أن المنتج طلب منى موافقة كتابية من أستاذنا.. فعلمت أن الأستاذ يجلس بمقهى «ريش» فى الصباح الباكر.. ذهبت إلى هناك.. وجدته يطالع الصحف فى انهماك وتركيز.. انقضضت عليه متلهفا أن أحصل على موافقته وبادرت بتقديم نفسى إليه.. لكنه استمهلنى فى حسم مردداً : - ولكنى أقرأ الجرائد الآن.. انسحبت فى حرج بالغ.. وجلست إلى منضدة قريبة وأنا أقرض أظافرى فى توتر وترقب.. وما أن طوى آخر جريدة يطالع فيها حتى عاودت الانقضاض عليه.. فاستقبلنى فى مودة وبشاشة تتناقض مع زجره السابق. وبعد مناقشة قصيرة وافق بأريحية وترحاب على معالجتى الدرامية للقصة.. وحينما عرض التليفزيون الفيلم سأل الناقد «محمد صالح» الأستاذ عن رأيه فى الفيلم ملمحاً له أن السيناريست قد غير كثيرا من أحداث القصة ورسم الشخصيات والنهاية.. وحول اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب اللامعقول إلى فيلم معقول فأكد له الأستاذ: حسنا ما فعل.. فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية أخرى لى هى «شهر العسل»، بنفس طريقة الحكى والبناء العبثي، فأغلق الناس التليفزيون.. يؤكد هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك تماما الفروق الجوهرية بين لغة الأدب واللغة المرئية.. وأن القصة أو الرواية المقروءة تختلف اختلافا كبيرا فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة.. ومن ثم فإن السيناريو فن قائم بذاته ولذاته.. ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معد أو ناقل أو محاك للرواية الأصلية.. وإنما هو ينشئ عالما كاملا يوازى عالم الروائى.. يتفق معه فى المضمون الفكرى، لكنه يختلف عنه فى وسائل التعبير ولم لا.. والأستاذ مارس كتابة السيناريو والحوار لأكثر من أربعة عشر فيلما منذ الأربعينيات.. وإن كان كما صرح للناقد الكبير رجاء النقاش فى كتابه المهم عنه أنه لم يكن سعيدا بكتابة السيناريو.. وأنه كان يمارس ذلك الفن كوسيلة للصرف على الأدب.. عالمه الأثير.. ويقارن بين العمل فى السينما والخلق الأدبى حيث إنه فى الأدب رب عمله، لكن العمل السينمائى عمل جماعى بالإضافة إلى سيطرة الطابع التجارى ورغبات المنتجين وأهواء الموزعين وإعادة تفصيل الأدوار تبعا لأفكار وميول الممثل المحبوب أو الممثلة المحبوبة.. ثم أسعدنى الحظ مرة ثانية بتحويل قصته «أهل القمة».. والتى سبق تقديمها فى فيلم سينمائى أخرجه «على بدر خان» إلى مسلسل تليفزيونى. ذهبت إليه فى منزله ومعى عقد التأليف وشيك بعشرة آلاف جنيه أجر القصة.. فاعتذر عن التوقيع على العقد لحين قدرته على استخدام يده فى الكتابة لإصابتها بعجز من جراء الاعتداء الغادر عليه.. واستمهلنى إلى بداية العام الجديد ريثما يبرأ من الإعاقة.. بالإضافة إلى رغبته أن يدخل المبلغ فى ضرائب العام القادم، فوضحت له أن الشركة المنتجه قررت إعفاءه من الضرائب.. وأنا أقصد من ذلك أنها سوف تتحمل الضرائب نيابة عنه.. فإذا به ينفجر فى بغضب جامح صارخا بصوت جهورى حاد دهشت أن يصدر عن هذا الجسد النحيل: - هذا تدليس.. ذلك غش أرفضه.. كيف تجرؤ.. أنا أرفض هذا الخداع .. و..و..وعشرات الاتهامات المتلاحقة.. وعبثا حاولت أن أوضح له أن لبسا قد حدث وأن تصوراً خاطئاً قد فهمه وهرولت من أمامه معتذرا فى قمةالارتباك والتعثر مطرودا مدحورا مشبعا بلعناته.. حزيناً كل الحزن لأننى أغضبته رغم براءتى من اتهاماته.. المهم أننى انتظرت حتى بداية العام الجديد.. وتدخل الأستاذ ممدوح الليثى.. وأوضح له سلامة الموقف القانونى والضرائبى وتم التعاقد معه.. كان دافعى إلى كتابة المسلسل أن صورة الفساد التى جسدها الأستاذ فى قصته وكما ظهرت فى الفيلم والتى توقفت عند مجرد الاتجار فى البضائع المهربة على إثر تطبيق سياسة الانفتاح.. هذه الصورة قد تفاقمت فيما بعد وتمخضت عن أشكال فساد أكثر بشاعة وتأثيرا.. فحاولت تقمص دماغ الأستاذ وأتصور كيف يمكن أن يعالج قصته بعد مرور عشرين عاما على إنتاجها فى فيلم فرأيت أن لص المحافظ ونشال الأوتوبيسات « النورى» قد تحول فى المسلسل إلى رجل أعمال منحرف.. حوت من حيتان الشريحة الجديدة لطبقة المليونيرات الذين يسرقون أراضى الدولة وملايين البنوك.. أسعدنى الحظ مرة ثالثة فكتبت السيناريو والحوار لرائعته «حضرة المحترم» فى مسلسل تليفزيونى.. وكان منتجه قد تعاقد معى لكتابته وهو يتصور أننى سأكتب عملا فكاهيا هزليا يصلح لأن يكون مسلسلا رمضانيا ترفيهيا لتسلية المشاهد ولم يكن يعلم أن الرواية قاتمة ذات مضمون فلسفى عميق وتشمل أحداثا ذات طبيعة تراجيدية مقبضة وتنتهى نهاية خانقة تتجلى فيها حكمة الموت.. وعبث الوجود.. وأظنه لو علم ذلك ما كان تحمس لإنتاج المسلسل لكنى خدعته.. ووافقته على تصوره ووعدته أننى سوف أضحك الملايين.. من خلال سيناريو ملىء بالقفشات والإيفيهات والحركات والمواقف الفكاهية.. ذلك أننى كنت تواقا إلى كتابة سيناريو وحوار تلك الرواية البديعة محتفظا بأبعادها الفلسفية والإنسانية العميقة. المدهش فى الأمر أننى لم أخدع المنتج فقط ولكنى خدعت أيضا الرقيبة المسئولة عن إجازة المسلسل والتى توقفت من خلال الملخص الذى قدمته عند حدود البعد الاجتماعى. أو الدرس المستفاد من المحتوى الأخلاقى للعمل الذى لا يعدو أن يكون من وجهة نظرها طبعا متمثلا فى أهمية مثابرة الفرد وكفاحه من أجل تحقيق آماله وأحلامه.. فمن جد وجد.. ولم تنتبه إلى البعد الفلسفى العميق المتصل برحلة بحث البطل عن الله واليقين.. ومعنى الوجود والعدم من خلال «عثمان بيومى» الموظف البسيط الفقير الذى ينحدر من أصل وضيع فهو ابن سائق كارو، عانى من شظف العيش ويطمع فى أن يصير مديرا عاما للمصلحة الحكومية التى يعمل بها.. وهو منذ دخل الإدارة يتطلع إلى المثال القوى القابع وراء المكتب الضخم فى الحجرة الزرقاء المقدسة «حجرة المدير العام».. يحرك الإدارة كلها من وراء «برفان» فى نظام دقيق وتتابع كلى.. يذكر الغافل بالنظام الفلكى وبحكمة السموات.. وتمثل درجة المدير العام لديه مقاما مقدسا فى الطريق الإلهى اللانهائى.