كنت أتابع تفاصيل محاكمة المخرج الهولندى جيرت فيلدرز بخمس تهم تتصل بالحض على الكراهية عندما تلقيت رسالة من قارئ أظنه أمريكيا من أصل سورى واسمه وجيه أسعد من مركز ممفيس الإسلامى فى الولاياتالمتحدة. أنا أعتبر محاكمة فيلدرز صورة راقية من صور الديمقراطية التى تضع القانون فوق كل اعتبار، وتصون المجتمع بالدفاع عن قيم التعايش والتعاضد بين مختلف أفراده وجماعاته. وأشيد بالحوار المنطقى والراقى الذى دار بين جميع الأطراف فى هذه المحاكمة، التى تبقى أمرا رائعا، أيا كان الحكم الذى ستنتهى إليه. وأجد فى رسالة القارئ العربى الذى أشار إلينا نحن المصريين بقوله: «أهلنا فى مصر» صورة أخرى من صور المسئولية الاجتماعية الراقية التى لا تتحقق إلا بالتغلب على التحيزات الدينية والعرقية والطبقية. تقول الرسالة إن «مركز ممفيس الإسلامى» هو مشروع بدأه عدد من المسلمين فى الولاياتالمتحدة، وبينهم عدد كبير من المثقفين من أصول سورية، فى إحدى ضواحى مدينة ممفيس بولاية تينيسى على مائة وعشرين ألف متر تم شراؤها قبل عدة أشهر، ولا يفصل الموقع المختار لبناء المركز الإسلامى عن كنيسة «هارت سونج» إلا شارع واحد. وما أن بدأت أعمال البناء حتى علقت الكنيسة لافتة كبيرة كتب عليها: «مرحبا بمركز ممفيس الإسلامى فى حينا». المركز يضم مسجدا ومركزا لإيواء كبار السن ومكتبة، وكان المأمول أن يكون المسجد، على الأقل، جاهزا قبل رمضان لكن الوقت أدركهم. وهنا فتحت لهم الكنيسة المجاورة، كنيسة هارت سونج، أبوابها لتؤدى الجاليات المسلمة فى ممفيس صلاة التراويح فى الكنيسة، طوال شهر رمضان. وقد سارعت وسائل الإعلام الأمريكية إلى تغطية هذا الحدث الاجتماعى والإنسانى المهم، خاصة أنه تزامن مع دعوة القس المتطرف تيرى جونز إلى حرق صفحات المصاحف علنا. يعترف راعى كنيسة هارت سونج لوسائل الإعلام بأنه شعر بقدر من القلق، فى البداية عندما سمع بأن مسجدا سوف يقام بجوار كنيسته، لكنه سرعان ما أدرك أن توتره مرده الجهل .. ويضيف: غيرنا رأينا بسرعة وعلقنا لافتة ترحب بجيراننا الجدد. إنهم على مرمى حجر منا، نحن نتبع المسيح الذى أمرنا بأن نحب جيراننا، فما بالك بجيران على الرصيف المقابل ؟ وخاطب أحد العاملين بالكنيسة العاملين بالمركز الإسلامى قائلا: نحن ننتمى لعقيدتين مختلفتين، لكنكم أثبتم لى أن الصورة التى نقلت إلىَّ عن المسلمين غير دقيقة. ورد عليه أحد المسلمين قائلا: أشكركم لأنكم أظهرتم روح الله المحبة. افتحوا أبوابكم وقلوبكم وسوف تكتشفون أن التشابه بيننا أقوى من أى اختلاف. قارن هذا الذى جرى فى هولنداوالولاياتالمتحدة بما فى حياتنا من عصبية تقارب الهيستيريا عند ظهور أقل بادرة خلاف. فهل كنا كذلك دائما؟ لقد تعلمت فى مدرسة الأقباط فى البتانون - منوفية، وكان يقام حولها كل عام المولد السنوى للشهيد مار جرجس الذى كنا نحتفى به ونحرص على حضوره، مسلمين ومسيحيين، لكننى دهشت لجدل دار قبل أيام حول ما قاله بعض الباحثين الأقباط الذين استنكروا تشبيه الاحتفالات بأعياد القديسين بالموالد الإسلامية، رغم أننا كلنا نعلم أن الثقافة واحدة وطقوس الاحتفال متماثلة. لماذا الميل المتصاعد للقطيعة ؟ لماذا العبث بأسس العيش المشترك الذى لا نملك بديلا عنه؟ يبدو الأمر مجرد استمراء للعبث. لكن الصورة مختلفة فى الغرب برغم الحملات المستمرة على الإسلام كديانة. فالاتهام والدفاع فى المحكمة الهولندية تحدثا عن مواطنين هولنديين مسلمين وعن حقهم فى الاستقرار والأمن. والمسلمون والمسيحيون فى ممفيس اعتبروا أنفسهم جميعا أمريكيين. لم يتحدث أحدهم عن «أهل الذمة» ولم يشر أحدهم الى الآخرين باعتبارهم «ضيوفا». هذه هى الحضارة. الحضارة ليست اقتناء أدوات الحضارة ولا حتى إجادة استعمالها. الحضارة، بالأساس، احترام للقانون ولدعائم العيش المشترك. سواء كان العيش المشترك لحظات فى الأسانسير أو ساعة فى المترو أو عمرا كاملا على أرض وطن أو على سطح الكوكب. الحضارة هى إجادة فن التعايش وكل ما عدا ذلك بربرية.