سمعت عن عرض مسلسل يحكي قصة سيدنا يوسف عليه السلام في قنوات فضائية من إنتاج إيراني، الجديد في المسلسل هو تجسيد شخصية النبي يوسف ووالده يعقوب عليهما السلام، كما استمعت وقرأت العديد من وجهات النظر حول تحريم تجسيد الأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة، وهو الموقف الذي يتبناه معظم فقهاء أهل السنة والجماعة، وتمسك به الأزهر الشريف في مصر لما يتضمنه ذلك من النيل من قدسية الأنبياء التي وهبها الله لهم. الحقيقة أن تحريم تجسيد الأنبياء هو في الواقع رأي فقهي لا يستمد قوته من نص في القرآن أو الصحيح من السنة النبوية، لكنه رأي اتفق عليه معظم علماء المسلمين علي مر عصور مختلفة من قبل أن تظهر أفلام السينما وتمثيل الشخصيات علي الشاشة الفضية، قبل ظهور الفوتوغرافيا والسينما كان التصوير يتم بالرسم في اللوحات ومنها لوحات شهيرة غاية في الإتقان الفني موجودة في كنائس عالمية للسيد المسيح والسيدة مريم العذراء ولشخصيات أخري وردت في الكتاب المقدس ، لكن معظم علماء المسلمين كان لهم رأي في تصوير وتجسيد الشخصيات المقدسة ينبع من احترامها وتقدير اختصاصها بالتكريم الإلهي الذي لا ينبغي المساس به علي مر العصور. أذكر أنني شاهدت فيلم الرسالة بنسختيه العربية والإنجليزية الذي التزم فيه الإنتاج بعدم ظهور الشخصيات الدينية الرئيسية بالصورة أو بالصوت إلا أن الفيلم جسد شخصية سيدنا حمزة بن عبدالمطلب الذي لقبه النبي الكريم بأسد الله، وكان السماح بظهوره علي أساس أنه ليس من العشرة المبشرين بالجنة. قام بدور حمزة رضي الله عنه بدرجة خيالية من الإتقان الممثل العالمي أنتوني كوين في النسخة الإنجليزية، كما أدي الدور ببراعة خيالية أيضا الراحل عبدالله غيث في النسخة العربية، ولكنني لم أنس قط في أي لحظة من المشاهدة أن من أراه هو أنتوني، أو عبدالله، وليس حمزة رضي الله عنه ليس لضعف أو قصور في الأداء الفني ولكن لسيطرة الصورة الذهنية لسيدنا حمزة، في عقلي ووجداني علي مشاعري، ولم ينجح ما عداها من صور مادية مجسدة في خداعها وإزاحتها. وفضلت في النهاية الاحتفاظ بالصورة الذهنية، وكرهت تصويره علي الشاشة ليس انسياقا وراء فتوي تحريم أو ما إلي ذلك وإنما لقناعتي بأن الصورة الذهنية التي تتولد في عقل ووجدان الإنسان للشخصيات المقدسة لايمكن أن توازنها أي صورة أخري مصنوعة مهما بلغت درجة إتقانها. الصورة الذهنية لنصوص القرآن الكريم علي وجه الخصوص لا تحددها الألفاظ التي تنقل المعاني إلي المستمع أو القاريء للنصوص . وبالتالي يصعب بل يستحيل ترجمتها قولا أو فعلا، ذلك أن الصورة الذهنية التي تنشأ عن قراءة آيات القرآن الكريم في ذهن ووجدان القاريء المتدبر تنبع من الاعتقاد بقدسية النص ووروده من عند المولي عز وجل. آيات القرآن سميت آيات لأنها منزلة من عند الله سبحانه وتعالي، ألفاظه ومعانيه محملة بروح منه وهدي للمتقين، تدبر معانيه والشعور بها مسألة ليست آلية تتحقق بمجرد القراءة والتلاوة، وإنما يسعد بها فقط المتقون الذين جعله الله لهم هدي ونورا . أما بالنسبة لغيرهم فهي ألفاظ يختلفون حول معانيها ويحاولون تطويع المعاني لما يوافق أهواءهم ومصالحهم. إن فهم آيات القرآن وتدبرها لا يتحقق إلا بالتواصل مع منزلته والإيمان بألوهيته ووحدانيته وقيوميته سبحانه وتعالي، ومن يؤمن بالله حقا وصدقا وليس مسايرة لما هو متوارث، يتقي الله في نفسه وفي دينه وفي كل ما يتعلق بحياته لأنه سيكون علي يقين بأنها حياة قصيرة لا تستحق عناء المغالطة والافتراء علي الله ورسوله. شدني إلي هذا الاستطراد ازدياد قناعتي بأن عدم تمثيل الرسل والأنبياء علي الشاشة وإن كان ليس له سند في التحريم إلا أن يحافظ علي الصورة الذهنية للإنسان المؤمن بما يعتقد، ويحميه من اهتزاز العقيدة بسبب أخطاء قد يقع فيها العمل الفني الذي يتصدي لتجسيد الشخصيات المقدسة. لقد حرصت علي مشاهدة بعض حلقات مسلسل يوسف الصديق المدبلجة بالعربية، وبالصدفة تابعت الحلقة التي تحكي كيف دخل يوسف الصديق السجن بكيد من امرأة العزيز وكيف استقبل القرار، وكيف عالج عزيز مصر الأمر الذي حدث في بيته. الحقيقة.. هو عمل بائس حقا، لأنه حاول أن يعرض القصة التي أوردها القرآن الكريم في آياته من منظور بشري لم يستطع أن يسبر أغوار النص القرآني وكيف وأني له أن يفعل، جاء العمل الفني ضعيفا متخاذلا ليشوه الصورة البلاغية الرائعة التي رسمها القرآن الكريم. زاد من بؤس العمل الفني تجسيده لسيدنا يوسف، فجاءوا بممثل يظنون أنه جميل الطلعة وقالوا لنا بسطحية شديدة هكذا كان يوسف عليه السلام. رفض عقلي ووجداني رفضا قاطعا قبول رؤية القائمين علي العمل الفني للقصة التي أوردها النص القرآني، فلا يوجد علي وجه الأرض من يستطيع تجسيد آية واحدة من آيات القرآن الكريم. بالله عليكم من أين نأتي بمن يجسد الآية الكريمة في سورة يوسف : «فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت أخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» إن هذه الآية القرآنية كغيرها من آياته ترسل إلي عقل المؤمن ووجدانه صورة ذهنية لا تقبل التجسيد، ومن هو ذا الذي يقوم بدور الملك الكريم . غفر الله لنا ولكم.