لعقود طويلة اتجه العالم كله غربا فيما يتعلق بنظرته للموضة والأزياء سواء ما يخص أحدث خطوط التصميم والموديلات أو جودة الخامات نفسها، كان يكفي أن تحمل أي قطعة معروضة ملصقا لبيت أزياء فرنسي أو إيطالي أو إنجليزي وأخيرا أمريكي، بعد أن اقتحمت نيويورك قلاع الموضة العالمية ليبرر ذلك سعرها الجنوني مصحوبا بشهادة تميز ضمنية لا خلاف بشأنها! الآن تغيرت خريطة الموضة كثيرا بعد أن رصدت «الفاينانشيال تايمز» البريطانية ظاهرة إقبال كبار رجال الأعمال شرق الآسيويين علي شراء كبري بيوت الأزياء الغربية في استثمارات بلغت قيمتها مليارات الدولارات، وهي الظاهرة التي أسمتها الصحيفة البريطانية ب «تعديل الملصقات»! في مانهاتن اصطفت طوابير علية القوم من أفخم الأحياء الأمريكية أمام مقر شركة هندية تدعي «إس كومارز ناشونوايد ليمتد» لمشاهدة أحدث خطوط البدل الرجالي لكبريات الماركات الأمريكية، ومن بينها «هيكي فريمان» الماركة التي يفضل الرئيس «باراك أوباما» ارتداء تفصيلاتها مؤخرا وبات من أشهر وأكبر زبائنها، حيث تعرض الشركة خطوط موضة ربيع ,2011 وكان أوباما قد حضر حفل التنصيب الرئاسي مرتديا بدلة «هيكي فريمان» لفتت أنظار الجميع، وهي الماركة المملوكة لبيت أزياء «إتش إم إكس» بشيكاجو مع «هارت شافنر ماركس» وآخرين، وتعرضت للإفلاس بعد أسابيع من الحفل الرئاسي إلي أن اشترتها مجموعة «سكنل» الهندية في مزاد في أغسطس من العام الماضي لتصبح بذلك آخر شركة آسيوية تقتحم سوق الماركات الغربية وتشتري واحدا من أكبر بيوت الأزياء الأمريكية! الحقيقة أن «سكنل» الهندية قد لحقت بطابور شرق آسيوي تخصص في شراء أعرق بيوت الموضة العالمية، وهو طابور يضم مؤسسة هندية أخري هي «ميغاميتال» المملوكة لعائلة «ميغا ميتال» إمبراطورة صناعة الصلب، وهي الشركة التي اشترت بيت أزياء «سكادا» الألماني العام الماضي، وبخلاف هاتين الشركتين الهنديتين فإن شركة «لي آند فونج» من هونج كونج كانت قد اشترت ترزية العائلة المالكة البريطانية أو بيت أزياء «هاردي إيميز» منذ نحو عامين، أما شركة «إس سي فانج آند سنز» ومقرها هونج كونج أيضا فقد اشترت بيت أزياء «برينجل» الإسكتلندي الأشهر عام .2000 لقد بات الصينيون والهنود هم زبائن تلك الصناعات الفاخرة في تحول يشي باحتمالات عديدة لذلك القطاع الصناعي الذي تبلغ قيمته 80 مليار دولار سنويا، ولعل أكثر الطلبات الشرائية الأخيرة كانت مدفوعة بالرغبة في تطوير ورفع مستويات الإنتاج الآسيوي، أما علي المدي الطويل فإن الهدف هو تغيير المعتقد السائد الخاص بأهمية الصناعة في دولة المنشأ، فتلك المقولة التي تعني أن المنتج يستحق ثمنه والتي تقضي بتصنيع القطعة في الدولة التي تم وضع تصميمها وطبع ملصقها بها، قد أوشكت علي الانتهاء! مع بدايات الأسبوع المقبل ينتظر أن تبدأ فعاليات عروض الأزياء الجاهرة في نيويورك، وتستمر في لندن وميلانو وباريس، وهي عروض تمتلئ بقطع أزياء لا تحمل ملصقاتها أسماء بيوت الأزياء وكبار المصممين أمثال «كلفين كلاين» و«جيانفرانكو فيريه» فقط، وإنما تحمل عبارات مهمة أخري مثل «صنع في إيطاليا» و«صنع في فرنسا»، أما الهدف الحقيقي الذي يسعي وراءه المالكون الجدد فهو تغيير الشق الثاني من المعادلة ليصبح «صنع في الهند» أو «صنع في الصين»، ويقول لوكا سولسا - كبير محللي الموضة بسانفورد برنشتلين» في سويسرا - «إن المرحلة الأولي من التحول - تحويل الملكية - لم تبدأ فقط وإنما هناك اتجاه من شأنه أن يكتسب قوة دفع»! إن هذا كله يحركه آمال وتحسن حالة الطبقة الوسطي الناهضة في أكبر سوقين صاعدتين في العالم، ووفقا لمؤسسة «بين الاستشارية» فإن مبيعات السلع المترفة في الصين متوقع لها أن تبلغ 6,14 مليار دولار بحلول عام ,2014 ففي كل طابق ثان أو ثالث بالمولات الراقية فإن «المدينة الصينية» الآن تدفع ببضائعها، أما في الهند فإن السوق الفاخرة - رغم صغرها - من المتوقع لها النمو بنسبة 25% سنويا، وقطاعها التجاري متداخل في عملية «تراكم غير معقول للثروة يري هذه الشركات بمثابة أصول مثمنة بشكل معقول للغاية»، حسبما يقول «سولسا»! في الوقت نفسه فإن العديد من الشركات الآسيوية تري أن لها ميزة تنافسية في الاستيلاء علي الماركات الفاخرة التي تعدت المائة عام في مجال صناعة الأزياء لأن هذه الشركات بإمكانها تحويل الإنتاج إلي منشآت أقرب وأقل تكلفة وبإمكانها أيضا زيادة هامش الربح في ظل استغلال سحر هذه الماركات وقنوات توزيعها الموجودة بالفعل في الولاياتالمتحدة وأوروبا بما يزيد المبيعات، وقد استطاع رجل الأعمال «الكوري الجنوبي» سونج يوكيم مضاعفة أرباح «إم سي إم» - ماركة حقائب اليد الألمانية الفاخرة - بعد شرائه لها عام 2005 معتمدا علي السوق الآسيوية، أما استثمارات «سكنل» الهندية فتشمل استخدام مغازل الصوف الفاخر التي اشترتها في «إسكتلندا» كجزء من صفقتها لشراء «إتش إم إكس»، ومغازل الحرير التي تتحكم فيها في إيطاليا لتطوير الغزول التي تستخدمها في صناعة الملابس وإنتاج الأزياء في الهند، ويقول «توشار مالو» المتابع لعمليات «سكنل» الدولية في نيويورك المصنعة للأقمشة والملابس وأردية المنزل: إننا نرغب في تقديم الابتكارات والخبرة الأمريكية للهند! الطابور يشمل الكثيرين أيضا منهم «ويلسبن» - شركة هندية أخري - حاولت دون نجاح شراء شركات غزول أمريكية وطنية مثل «ستيفنز بوينت» منذ سنوات، لكن هذه الشركة بمساعدة «تماسك» - صندوق سنغافورة للملكية المالية - وهو استثمار كبير للأقليات استطاعت أن تحاول مجددا وبنشاط كبير، لكن قد تكون هناك دائما ثغرات، فالماركات لا تعني شيئا إذا كنت لا تعرف ما الذي يمكنك أن تفعله بها، حسبما يقول المدير التنفيذي لواحدة من أكبر سلاسل المنسوجات الأمريكية الناجحة الذي يضيف: أولدز موبيل كانت ماركة محترمة، لكنها لم تعد كذلك، مشيرا إلي واحدة من علامات جنرال موتورز التي كان لها شأن في الماضي ولم تعد كذلك! ما من شك أن هناك تحديات كبيرة تواجهها هذه الشركات، فالمؤسسات الهندية علي سبيل المثال - اعتادت علي التعايش في بيئة يكون فيها رأس المال مكلفا ومعدلات الفوائد عالية في الوقت نفسه، إن ذلك يمنحها نقطة ارتكاز أقل فيما يخص عائد الاستثمار، ولكن ربما لا يكون لها جيوب أعمق تدعمها للاستثمار في الماركات التي تسعي وراءها، بينما يقول «مارك بانداك» - مجموعة بلاكستون بارتنرز الاستشارية - فإن الأمر يبدو تماما كما كان شعار «صنع في اليابان» في السبعينيات له مردود سلبي، فاليوم يبدو شعار «صنع في الهند أو الصين»، ولكنهم يفخرون جدا بقدراتهم التصنيعية، والسؤال الراهن الأهم بالنسبة لهم الآن هو: كيف يمكن تغيير تلك الصورة؟! بالنسبة للأسماء الفاخرة، فإن تعديل الملصقات كلها إلي أخري «آسيوية» بغض النظر عن الدولة من شأنه تقليل قيمة المنتج الذي يسعون وراءه، بالإضافة إلي ذلك كما يقول الخبراء فإن الشركات الأوروبية التي صكت فيها هذه الماركات ربما تناضل لحماية اسمها العريق، فقد سنت إيطاليا بالفعل تشريعا يحدد ماهية المنتج الذي يمكن أن يتأهل لحمل ملصق «صنع في إيطاليا»، كما تقول «إليساندرا كوبولا» المحللة ب «ستاندرد آند بورز» اللندنية، أما «توشار مالو» - من سكنل - فيقول: إننا لن نهبط بماركات مثل «هيكي فريمان» للأسواق العادية، وإنما نحن بصدد أن نجعل الزبائن يدفعون مئات الدولارات بعد أن أوشكوا علي دفع ملاليم، وكانت شركته قد عقدت صفقة قيمتها 25 مليون دولار مقابل «إتش إكس إم»، لكنها أخذت علي عاتقها مديونية الشركة وقيمتها 125 مليون دولار في الوقت نفسه، كما استفادت «سكنل» كذلك من مرونة قوانين الإفلاس الأمريكية لإرساء قواعد صفقتها بشكل معقول. الآن يدير الشركة «دوج ويليامز» الذي عمل لدي مؤسسة «رالف لورين» لنحو 17 عاما قبل أن ينشئ شركته الخاصة كما نقل معه «جوزيف عبود» لوضع التصميمات، ونقل مقر الشركة الأمريكية من شيكاجو إلي مكاتب حديثة كان قد حصل عليها بدون مقابل إيجاري للسنة الأولي بموجب التعاقد مع جهة التأمين المفلسة، والمكاتب تواجه محطة نيويورك المركزية الكبري، ولقد أسهمت الشركات الآسيوية كثيرا في دفع عجلة إنتاج هذه السلاسل عن طريق توفير عامل السرعة، فحتي نحو 20 عاما فقط مضت كان يتم استيراد «السوست والزراير» مقابل أي ثمن مقابل ضمان عامل الجودة العالية بما يتناسب مع اسم المصنع وماركة القطعة، لكن لم يعد الوضع كذلك الآن! ربما لا يختلف الأمر مع بيوت أزياء شهيرة أخري، فرغم اعتياد «جورجيو أرماني» لسنوات طويلة علي استغلال الصين لتصنيع منتجاته الأرخص والأقل ثمنا، إلا أن اليوم فإن خط إنتاجه لمجموعته «أرماني كوليتزيوني» مصنع بالكامل في آسيا، وقد أصبح المجال مفتوحا بصورة أكبر خاصة بعد أن أكد خبراء الموضة أن «داليان دايانج تراند» - أحد كبار مصممي البدل في شنغهاي يطمح في منافسة أرماني وأرمنجلد وزانا. حتي الآن فإن الصين في المقدمة فلاتزال هناك عقبات عديدة أمام شركات الأزياء الهندية الطموح، ليس أقلها أبدا لأنه من الأسهل إنشاء تجارة في هذا المجال في الصين عنها في الهند لأسباب عديدة فحسبما يقول خبراء تلك المهنة: إن الصين وحدها لديها القدرة والبنية التحتية التي تؤهلها لذلك، وتلك حقيقة فالصين تدفع فعلا بالقوة العاملة الماهرة والبنية التحتية ليس فقط الطرق الممهدة والموانئ والمطارات ووسائل المواصلات، وإنما الأهم الاستعدادات والترتيبات المالية، وهي عناصر ربما تعوزها دول ذات قوي عاملة أرخص مثل «بنجلاديش» و«فيتنام» وعلي أي حال فإن إجمالي التكلفة في الصين أقل منها 30% عن الهند. ما من شك أنه مع تحول الثروة وازدهارها في آسيا، وفي ظل قيام المستهلك الأوروبي والأمريكي بشد الحزام، فإن مركز الجذب في مجال الموضة وصناعة الأزياء مستمر في الاتجاه شرقا سواء فيما يخص التصنيع أو الاستهلاك، ولسوف يتزايد عدد الشركات التي تطرح ذلك التساؤل: هل نكتفي فقط بشراء اللبن أم أنه من الأجدي شراء البقرة نفسها؟!