خرجت من شرنقة تأملاتى، بسؤال واحد، لا يتركنى لحالى، «أهذه «مصر».. التى ولدت على أرضها، وشربت من نهرها الخالد.. وكبرت، ومعى أحلامى، تحت سمائها؟». أهذا هو «الوطن»، الذى كان فى يوم ما، ثريًا، ممتعًا، بالغناء الحلو، والسينما الرائدة؟ أهذه «مصر»، التى غنت لها، أم كلثوم: «مصر التى فى خاطرى» وجاءها جيرانها، من كل ناحية ليتخذوها، مستقرًا، وموطنًا، بديلاً أجمل من بلادهم؟ السؤال طبعًا، محرج جدًا.. ف«مصر» التى كانت فى خاطرى، خرجت ولم تعد. هربت «مصر» من نسائها، ورجالها، الذين عجزوا عن حمايتها، والإبقاء عليها، أنيقة.. جميلة.. نظيفة.. ناهضة.. و«مصحصحة» لتيارات التخريب الحضارى. حزمت «مصر» حقائبها، وحزنها على أحوالها.. وركبت أول قطار يحملها لمن يستحقها. لم ترجع «مصر»، لم يهزها الحنين إلى أهلها، ولم تحس بافتقاد ماء النيل.. وتنكرت لكل شىء.. أصبح مقيمًا، يعربد على أرضها.. يخرب ثمارها.. يسرق الجوهر الحكيم، ولا تبقى إلا الأشكال الحمقاء البارعة فى تغيير الأقنعة، فى كل زمان، وفى كل مكان. أين «مصر»؟! أين «مصر»؟! أبحث عن «مصر»، الواقع، والحلم، ويقظة العقل، وأناقة الملبس، وشياكة الوجدان، ورقى نسائم الهواء، ورقة أشجان الخريف.. فلا أجدها. أبحث عن «مصر»، التى احتضنت طفولتى.. ومنحتنى سخاء الأمنيات.. وإرادة تحويل المستحيل، إلى ممكن.. فلا أجدها. أبحث عن «مصر»، التى لم تكن تهزر، حين أعلنت أن «الدين لله والوطن للجميع».. وأن النساء بالضبط مثل الرجال، فى الحقوق، والواجبات، والأهلية، والمسئولية.. وأن العدالة الاجتماعية، هى المنبع.. وأن الحرية هى المصب، فلا أجدها. أبحث عن «مصر»، التى كنت أراها، فى أفلام أبيض فى أسود، فلا أجد أثرًا لها. أبحث عن «مصر» التى يُطبع فيها، كتاب عنوانه «لماذا أنا ملحد».. ويكون الرد كتابًا آخر عنوانه «لماذا أنا مؤمن».. مافيش إرهاب دينى.. مافيش تحفز لتكفير الناس.. مافيش تعصب دينى.. مافيش سفك دماء بسبب الأديان.. مافيش نساء تمشى، ولا يظهر منهن، إلا ثقب عين واحدة.. مافيش استخدام وقح، مستبد، طامح للحكم بالكرابيج، للدين وطقوس العبادات، لأن «مصر» لم تكن تهزر، حين أعلنت أن «الدين لله والوطن للجميع».. كما أنها لم تكن تهزر، حين شجعت نساءها، على السفور، وخلع الحجاب. أبحث عن «مصر» تلك.. فلا أجدها. سافرت «مصر»، ولم تسمح لنا، بأن نودعها، ونتمنى لها، رحلة موفقة، عند شعب، يعرف قدرها، ومكانتها، ويعرف كيف يحميها، من توحش الإرهاب باسم الدين، وشراسة الكذب، تحت عنوان «الجهاد الدينى». وأنا مع «مصر»، التى أنزلت بنا، العقاب القاسى، وفرت هاربة، تنقذ نفسها. «مصر» عندها كل الحق، حين تتركنا، إلى هذا المصير البشع، الذى وصلنا إليه، بعجزنا، ومزايداتنا الكاذبة، وتراخى أقوالنا، وتردى سلوكياتنا.. وفتح الباب واسعًا، مرحبًا، لكل مَنْ يلتحف بالأديان. تركت «مصر» مجرد رسالة قصيرة، لكنها بليغة، واعية: «إن الشعوب تحصد ما تزرع.. لذلك فإننى، أهرب منكم، أيها المصريون والمصريات». وما أردأ ما نحصده، يا «مصر».. لقد فعلت خيرًا، عندما قررت الرحيل، هل نلوم، الوردة الجميلة، لأنها انتزعت نفسها، من أرض جافة.. وخرائب عفنة.. إلى البساتين، والحدائق؟ هل نعاقب قطرات الندى، حين تهرب، من زمن الصحراء، إلى حضارة المطر؟ نحن لا نملك حق محاكمة «مصر»، على هروبها، لأننا أعجز من حمايتها، وتوفير الأمن، والعدالة، والحرية، والجمال لها. «مصر» برحيلها عنا، كانت فى حالة دفاع عن النفس.. وهو أمر مشروع فى القانون، ولا عقاب عليه. كيف نتجرأ، على التفكير، فى حتى مساءلتها؟ ونحن السبب فى هروبها. بالهروب منا، أثبتت «مصر» أنها حقًا «مصر»، التى غنت لها، أم كلثوم.. والتى تعتز بكرامتها، وتعرف قيمة نفسها. لن أبحث عن «مصر».. لأننى على يقين، أنها سترجع يوم أن تجدنا نستحقها. متى هذا اليوم؟ من الأفضل ألا نسأل، لأن الجواب ليس فى صالحنا، ولن يرضينا. من بستان قصائدى وضعت بدلاً من قلبى قطعة من الحجر لأتحرر من إنسانيتى تجاه البشر وأكتسب مناعة ضد أحزان القدر