يبدو أن نشوة تحقيق انتصار دعائى دولى على إسرائيل بعد أحداث أسطول الحرية وتوابعه، ربما يقرأها البعض قراءة خاطئة تضيع النشوة والانتصار معا، ربما يكون ذلك بسبب استعجال النتائج، أو بسبب فهم خاطئ للغة التى يتحدث بها المجتمع الدولى ومفرداتها. صحيح أن حادث أسطول الحرية تسبب فى إحراج عميق لإسرائيل وحلفائها، كان من تداعياته توجيه أنظار العالم إلى السلوك الهمجى لإسرائيل، مما اضطرها إلى تشكيل لجنة للتحقيق استجابة للضغوط الدولية، بالطبع اللجنة التى يرأسها قاض إسرائيلى سابق لن تدين الحكومة الإسرائيلية، لكنها فى واقع الأمر تعتبر تراجعا عن الموقف الإسرائيلى الذى كان رافضا لإجراء تحقيقات فى هذا الموضوع، كما أنه يثبت لإسرائيل أن هناك حدودا لتحدى الإرادة الدولية التى وفرت الحماية لإسرائيل منذ قيامها على الأرض الفلسطينية المغتصبة وحتى الآن. أيضا، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلى، إيهود باراك، عن إلغاء زيارة له لباريس كانت مقررة من قبل للمشاركة فى معرض الصناعات العسكرية فى باريس بحجة أن عليه البقاء فى تل أبيب بسبب تشكيل لجنة الفحص التى ستبحث فى الاستيلاء على أسطول الحرية، فيما ذكرت مصادر أخرى أن إلغاء الزيارة جاء نتيجة لتهديدات باعتقاله للتحقيق معه على خلفية الهجوم الدامى على سفينة «مرمرة» التركية. على ما يبدو فإن خشية الملاحقة القانونية هى السبب الحقيقى لإلغاء الزيارة، فقد عبّرت الحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة، ومقرها بروكسل، عن تقديرها للجهود التى تقوم بها المؤسسات الحقوقية حول العالم، والهادفة إلى ملاحقة القادة الإسرائيليين قضائياً، على الجرائم التى ارتكبت بحق الشعب الفلسطينى، وامتدت لتصل إلى المتضامنين الدوليين مع قطاع غزة . من تداعيات الموقف أيضا، أعلنت مجموعة أطلقت على نفسها «شهداء أسطول الحرية» مسئوليتها عن هجوم على دورية للشرطة الإسرائيلية قرب مدينة الخليل، أسفر عن مقتل شرطى إسرائيلى وإصابة اثنين آخرين، فى حادثة قد تفتح الباب إلى مزيد من العمليات المماثلة فى الضفة الغربية تكسر قاعدة عدم اللجوء إلى السلاح فى إطار السعى إلى الحل عن طريق المفاوضات . تبلور اتجاه لدى الدول العربية والإسلامية لدعم تحرك مشترك لدى مجلس الأمن لطلب رفع الحصار عن قطاع غزة، قد يؤدى إلى مواجهة بين المجموعة العربية والإسلامية وبين الولاياتالمتحدة فى مجلس الأمن، مما دفع الولاياتالمتحدة إلى التدخل والضغط على إسرائيل، للبحث فى مبادرة جديدة لرفع الحصار قبل نهاية شهر يوليو المقبل. طبعا الهدف من التحرك الأمريكى واضح، وهو تحويل الأنظار عن حملة الضغوط والتنديدات الدولية بحق إسرائيل وتحسين صورتها من جهة، وإعادة الكرة إلى ملعب المفاوضات العبثية المباشرة وغير المباشرة بين الفلسطينيين وبين إسرائيل. أما الجهود الأوروبية فتتجه إلى المعالجة الإنسانية وليس السياسية فلم يتطرق أحد إلى إنهاء احتلال إسرائيل للقطاع، وإنما اقتصر الحديث على حرية توصيل المعونات والمساعدات إلى المتضررين من سكان قطاع غزة المحتل. دعا وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبى إلى فتح معابر قطاع غزة لنقل كل البضائع التى يحتاج إليها الفلسطينيون والسماح بتنقلهم بحرية. واستعداد الاتحاد للاضطلاع بدور فى تفتيش البضائع المتوجهة إلى غزة بحرا وبرا، وفقا لإجراءات تحدَّد لاحقا. وعبر المسئولون الأوروبيون خلال الاجتماع أيضا عن استعدادهم للمساهمة فى تطبيق آلية جديدة من أجل رفع الحصار الذى وصفوه بغير المقبول وغير المجدى سياسيا. وأكدوا ضرورة السماح للبضائع الفلسطينية بالتنقل بحرية بين غزة وبين الضفة الغربية من أجل تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطينى. كما دعا الأوروبيون إلى اعتماد آلية تستند إلى اتفاق عام 2005 المتعلق بتواجد أوروبى على معبر رفح، لمراقبة حركة مرور البضائع إلى غزة، كما أبدوا رغبتهم فى أن تراجع إسرائيل قائمتها للمنتجات التى تحظر إدخالها إلى قطاع غزة . وينتظر الأوروبيون إشارات إيجابية من إسرائيل، التى سربت أنها مستعدة من حيث المبدأ لتخفيف الحصار عن غزة من نقطة عبور وربما نقطتين . المشكلة القائمة الآن هى فى فهم كل جانب لموضوع رفع أو تخفيف الحصار، فالواضح من تصريحات ومناقشات الجانبين الأوروبى والأمريكى وكذلك الجانب الإسرائيلى أن الحديث عن رفع أو تخفيف الحصار لا يعنى إنهاء حالة الحصار المفروضة على حركة حماس فى الأساس وليس على سكان القطاع، وما يبحث عنه الأمريكيون والأوروبيون ليس رفع الحصار عن حركة حماس فى قطاع غزة، وإنما السعى بطريقة ما إلى تلبية حاجة السكان من السلع والخدمات دون رفع الحظر عن حركة حماس. بينما يتحدث العالم كله عن رفع الحصار عن قطاع غزة، قالت إسرائيل إنها ستستمر فى حصار قطاع غزة بحرياً فى إطار الحصار العام الذى تفرضه على القطاع منذ ما يقرب من أربع سنوات. فى بيان صادر عن مجلس وزراء إسرائيل جاء أنها ستواصل الدفاع عن مواطنيها ضد قاعدة حماس الإرهابية، حسبما زعمه البيان. المسألة - إذن - هى سباق ماراثونى لاحتواء الموقف الذى سبب حرجا لإسرائيل وللولايات المتحدة، ولا يستطيع الاتحاد الأوروبى أن يفرض على إسرائيل أن ترفع الحظر العام على حركة حماس فى ضوء أن الاتحاد الأوروبى يفرض حظرا على التعامل معها، كما أن تحرك الولاياتالمتحدة يتعلق بأجندتها وهى العمل على استئناف المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين فى أقرب وقت ممكن . كل ذلك يدخل فى سياق متابعة ردود الفعل الدولية على حادث ارتكبته إسرائيل بدم بارد وتسعى لامتصاص آثاره على الساحة الدولية، لكن المحير حقا هو موقف حركة حماس التى يبدو أنها قنعت بالمردود الإعلامى ولا يهمها استثمار ذلك الحدث سياسيا، المردود الإعلامى سيتلاشى مع الوقت، ولكن ما يبقى هو المكسب السياسى الذى ليس له إلا طريق واحد فى المستقبل المنظور وهو طريق المصالحة الفلسطينية والاستفادة من الزخم الدولى الحالى فى فرض شروط سلام فلسطينية تجد قبولا لدى المجتمع الدولى، تضع المصلحة الفلسطينية قبل أى أجندة إقليمية أو دولية.